جسر نونغداري في مدينة جينتشون.
بقلم مراسلة كوريا.نت الفخرية المصرية آلاء عاطف عبادة
الصور= بعدسة كيم يونغ-جو
"استعد لنعبر جسرًا صخريًا اليوم!"
يمكن لكل من يعرف القليل عن سحر كوريا الجنوبية أن يتلمس الأسباب الكامنة وراءه، فهي تتربع على أقصى شرق الحافة الآسيوية لتغتسل يومياً بمياه المحيط الهادي، وطبيعتها الطبوغرافية تأخذك من القمم الجبلية إلى السهول، ومن الجداول والوديان إلى الغابات والشلالات والمضائق التي تشكل لوحات بانورامية على أرضها، فضلا عما تركه الأسلاف من إرث مادي وغير مادي يحوطه هالة من الألغاز المصاحبة للهدوء والسكينة، علاوةً على اهتمام الدولة بالممتلكات الثقافية التي ورثتها الأرض وإضافة الحداثة حولها، فلا عجب إذن أن تلعب السياحة دورًا بارزًا في اقتصادها، بالرغم من أنها دولة صناعية في المقام الأول.
فربما في العادة، لن تتحمس مطلقًا إذا استمعت لجملة مثل "استعد لنعبر جسرًا صخريًا!"، لكن إذا كان الجسر المشار إليه، هو جسر نونغ في مقاطعة جينتشون، أطول وأقدم جسر صخري في كوريا الجنوبية- فالأمر يختلف.
هل يمكنك أن تتخيل أن جسرًا حجريًا تم تشييده بدون أسمنت يمكن أن يصمد ألف سنة بين مدٍ وجزْر وتقلبات في مستوى المياه وعوامل التجوية الميكانيكية؟
يطلق الكوريون على هذا الجسر الجميل 'نونغ جيو' أو 'نونغ- داري' حيث؛ داري تعني جسرًا بينما نونغ تعني الحريش (أم أربعة وأربعين، أو مئوية الأرجل)؛ لأنه يشبهها شكلا!
وهو جسر حجري يُقال تعود نشأته إلى مملكة كوريو على يد الجنيرال إم، يبعد عن العاصمة سيئول مسافة ساعة وأربعين دقيقة بالسيارة، وهو أحد الأصول التراثية المادية المحفوظة للثقافة الشعبية، التي تم تجديدها لتصبح معلم جذب سياحي حديث يُعانق الحنين للماضي، فتم ضمه لقائمة التراث الثقافي المادي المحلي رقم 28 في الـ 20 من ديسمبر عام 1976، واختير من قبل وزارة البناء والنقل ليحل في المرتبة 17 من بين أجمل 100 طريق في كوريا، ومنذ عام 2000 يُقام هنالك مهرجانًا سنويًا باسمه 'مهرجان نونغداري' الذي يحوي العديد من الفعاليات لتشجيع السياحة، كمسابقات صيد الأسماك والرياضات والرقص الشعبي.
تشييده:
يعد نونغداري المبني كليًا بالحجارة الطبيعية وبدون أي تدخل جمالي صناعي- أقدم جسر حجري تم العثور عليه في كوريا الجنوبية، وتكمن سمته في تقنية بنائه الفريدة جدًا، فهو عبارة عن صخور طبيعية مُكدسة مع بعضها في شكلها الأصلي، غير مصقولة ذات أحجام مختلفة، تتداخل كحراشف السمك بطريقة هندسية بارعة تجعلها متلاصقة كقوى مغناطيسية. الحقيقة الأكثر إمتاعًا، أنه لا يوجد بين الصخور أسمنت مطلقًا ولا أي مادة لاصقة أخرى، وعلى الرغم من ذلك يُظهر الجسر طولَ عمرٍ مدهشًا؛ لذلك يعتبر نوعًا ما أعجوبة هندسية.
في الأصل كان مصنوعًا من 28 رصيفًا بيضاويًا كأعمدة قصيرة لتجنب التيارات ومنع تكون الدوامات، يعلوها سقف للممشى، يبلغ طوله 93.6 مترًا، وعرضه 3.6 مترًا، والأرصفة حوالي 1.2 مترًا، والمسافة الداخلية بين الأرصفة حوالي 80 سم، يبدو من بعيد تمامًا مثل "الحريش".
قصص من الماضي:
تم تناقُل القصص والأساطير حول نشأة نونغ-داري والمياه أسفله، فعن نشأة المياه في ’جوكري‘ (أسفل الجسر قبل بنائه)، يحكى أنه كان هناك عائلة ثرية في القرية، وأنه في يوم أتى للقرية راهب أو ناسك يطلب الطعام، عندها أعطته العائلة الثرية البخيلة علف الأبقار بدلا من الأرز! فما لبث أن غادر الراهب القرية حتى ضربها الفيضان العنيف. وتقول الأسطورة أنه حتى يومنا هذا لا زالت العائلة الثرية تعمل في طحن الذهب أسفل المياه، مما يجعل الماء يترقرق لامعًا بلونه الذهبي.
وأما عن بناء الجسر ذاته؛ فوفقًا لقصة رُويت، أنه كان هنالك امرأة عائدة من بعيد لتحضر جنازة أبيها، لم تستطع عبور المياه للجهة المقابلة، فتم بعدها بناء الجسر.
بعد عبور نونغداري:
مرصد خشبي كاستراحة يوجد بعد جسر نونغداري بمدينة جينتشون.
ينتهي الجسر عند تلة قصيرة تؤدي إلى مرصد خشبي كاستراحة، يبدأ بعدها طريق 'تشورونغ' المنتزه الذي يربط بين تليد وطارف، أي بين نونغ-داري و'هانول- داري' (جسر السماء).
يُعد منتزه تشورونغ مسار الوجهة البحرية الواسع الذي تحفه النباتات البرية والأشجار، مثاليًا للتمتع بمنظر جسر السماء الأبيض المُعلَّق بين زُرْقتين - زُرْقة السماء وزُرْقة الماء- وهو الأشهر في جينتشون كمنطقة جذب سياحي، ومن تحته بحيرة 'تشوبيونغهو' الصناعية العذبة التي تتدفق رقراقة مع النسيم البارد، وتتخذ شكل التنين على الخريطة.
بحيرة 'تشوبيونغهو' الصناعية العذبة بمدينة جينتشون.
فكأن ساعات السير هي ساعات من ذوبان الروح مع الرياح في تآلف وتعافٍ مع الطبيعة الشافية! أتمنى أن يحالفني الحظ وأخوضها كتجربة بنفسي يومًا، بعدما ينتصر العالم على جائحة كورونا 19.
sarahoqelee@korea.kr
هذه المقالة كتبت بواسطة المراسلين الفخريين. مراسلونا الفخريون هم مجموعة من المراسلين حول العالم يشاركون شغفهم وحبهم لكوريا وثقافتها.