صورة لي مع صديقتي خلال مشاركتنا في مراسم الشاي الكوري، حيث جرّبتُ أيضًا ارتداء الهانبوك، وذلك ضمن الصف الثقافي بمعهد الملك سيجونغ بتونس. (الصورة من سلمى الكناني)
بقلم مراسلة كوريا نت الفخرية التونسية سلمى الكناني
في عالمنا المعاصر، المليء بالسرعة والضوضاء، تزداد حاجتنا إلى طقوس تُعيد لنا هدوءنا الداخلي، وتمنحنا فسحة من التأمل. من بين تلك الطقوس التي تشدّنا بثقافتها وعمقها الروحي، تبرز مراسم الشاي الكورية كأحد أرقى أشكال التعبير الثقافي. هذه الطقوس، التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، تحمل في جوهرها فلسفة متكاملة، تنسج خيوطًا من الاتزان بين الإنسان والطبيعة. عرفت كوريا مراسم الشاي منذ قرون، وتطورت هذه التقاليد بشكل ملحوظ خلال فترتي مملكة غوريو ومملكة جوسون، حيث لم تكن مجرد ممارسة منزلية، بل جزءًا من نمط حياة كامل يُعلي من قيمة التفاصيل ويُكرّم لحظات الصفاء. تتميز النسخة الكورية بطابعها البسيط، الهادئ، والعفوي. فـ'دادو'، كما تُسمى بالكورية، تُمارس في المعابد والقصور، لكنها تجد مكانها أيضًا في البيوت، وسط العائلة أو الأصدقاء، ضمن لحظة تختلط فيها الجمالية بالتأمل العميق.في هذه الطقوس، يكمن الجوهر في طريقة تقديم الشاي، وفي الزمن المخصص لتحضيره، في الهدوء الذي يصاحب كل حركة، وفي الاحترام المتجسد في أدق التفاصيل: من تسخين الماء، إلى تقديم الكوب، ومن انتقاء الأدوات، إلى صمت المشاركين.
صورة تعرض المعدات التقليدية المستخدمة في مراسم الشاي الكوري. (الصورة من سلمى الكناني)
في ديسمبر الماضي، حظيتُ بفرصة مميزة لمعايشة تجربة غنية نظّمها معهد الملك سيجونغ في تونس، حيث عشنا لحظات استثنائية في فعالية كرّست للتعرّف على مراسم الشاي الكوري التقليدي. انطلقت الرحلة من البعد النظري والثقافي، لتأخذنا نحو تجربة حسية متكاملة شملت ارتداء الهانبوك وتذوّق الشاي بأنفسنا. كانت لحظات منسوجة بين التعلم والممارسة، جمعت الجمال بالمعنى، وتركت في نفسي أثرًا عميقًا.
ما إن دخلنا القاعة المخصّصة للفعالية، حتى شعرنا أننا عبرنا إلى عالم آخر، تغمره السكينة وتلفّه أجواء من التأمل. خفّت الإضاءة، وبدأ العرض المرئي. تابعنا مجموعة من الفيديوهات التثقيفية التي عرضت مراسم الشاي كما تُقام في كوريا، في القرى التقليدية والمعابد، وحتى في بعض المنازل المعاصرة التي لا تزال تحافظ على روح التراث. تنقّلت الكاميرات بين مشاهد لطاولات خشبية بسيطة، وفناجين خزفية ناعمة، وأشخاص ينفّذون الطقس بصمت وتناسق. ومن خلالها تعلّمنا أن لكل حركة دلالتها، ولكل تفصيلة جذور فلسفية.
صورة لمعلّمتنا وهي تشرح لنا خطوات وفلسفة مراسم الشاي الكوري. (الصورة من سلمى الكناني)
عقب انتهاء العرض، تدخلت معلّمتنا بشرح دقيق لكل ما شاهدناه، بلغة واضحة ونبرة هادئة، عمّقت فهمنا لما رأيناه. شرحت لنا مراحل التحضير خطوة بخطوة، وفسّرت لماذا يتم تسخين الإبريق مسبقًا، وكيفية التعامل مع أوراق الشاي، ودرجة حرارة الماء المناسبة، وسبب تقديم الشاي أولًا للضيف، ثم المضيف، وغيرها من التفاصيل. الأجمل في الأمر أن معلّمتنا لم تكتفِ بالشرح النظري، بل عرضت أمامنا الأدوات الأصلية التي تُستخدم في هذه الطقوس. رأينا بأعيننا فناجين خزفية صغيرة، بدون مقابض، مصنوعة يدويًا بروح فنية بسيطة. شاهدنا الإبريق التقليدي، والمصفاة المصنوعة من الخيزران، والمغرفة الخاصة بأوراق الشاي، والمفرش الذي توضع عليه الأدوات، والذي يحمل نقوشًا تقليدية مستوحاة من الثقافة الكورية. كانت كل قطعة تحكي قصة، وكل أداة تحمل خلفها رمزية خاصة، تجعل من استخدامها جزءًا من الطقس.
صورتي وأنا أقدّم الشاي الكوري في كوب تقليدي. (الصورة من معهد الملك سيجونغ بتونس وتم الحصول على الإذن لاستخدامها)
وقبل أن ننتقل إلى التجربة العملية، دُعينا لارتداء الهانبوك، الزي الكوري التقليدي. كانت لحظة مؤثرة للغاية، فقد شعرت بأنني عدت قرونًا إلى الوراء. تملكني شعور بالهيبة والفخر، وكأنني أشارك في مشهد من دراما تاريخية. بدأنا بعدها تنفيذ المراسم بأنفسنا، تحت إشراف معلّمتنا. جلسنا بهدوء حول الطاولة، وبدأنا بتسخين الأدوات، ثم وضع أوراق الشاي بعناية، وسكب الماء بدرجة الحرارة المناسبة. ثم انتظرنا للحظات قبل أن نصب الشاي في الفناجين ونقدمه لبعضنا البعض، بانحناءة خفيفة تعبيرًا عن الاحترام. في البداية، شعرت ببعض التوتر، فكل حركة تتطلب تركيزًا وتناسقًا، لكن سرعان ما بدأ التوتر يزول وحلّ محله إحساس داخلي عميق بالهدوء والسلام. عندما تذوقت الشاي، كانت النكهة خفيفة، ناعمة، لكنها محمّلة بالمعنى. كان تتويجًا لتجربة متكاملة بدأت بالمعرفة، ثم الممارسة، وانتهت بالتأمل. شعرت في تلك اللحظة أنني لم أتعلم عن الثقافة الكورية فقط، بل عشتها فعليًا، وتواصلت معها.
صورة لي مع صديقتي أثناء مشاركتنا في مراسم الشاي الكوري في الصف الثقافي بمعهد الملك سيجونغ بتونس. (الصورة من سلمى الكناني)
تجربتي في مراسم الشاي الكوري بمعهد الملك سيجونغ بتونس لم تكن مجرد نشاط ثقافي عابر، بل كانت رحلة غنية في عمق الثقافة الكورية. تعلّمت من خلالها أن البساطة يمكن أن تحمل عمقًا، وأن كوب شاي يمكن أن يكون جسرًا بين الحضارات، ومساحة للسلام الداخلي، ولغة لا تحتاج إلى كلمات. اليوم، عندما أتناول الشاي في حياتي اليومية، لا أفعل ذلك بنفس الطريقة. أصبحت أنظر إلى الشاي كرفيق، كل رشفة منه تذكّرني بأن التوازن يمكن أن يبدأ من تفاصيل صغيرة، وأن لحظات الهدوء التي نمنحها لأنفسنا هي لحظات مقدّسة تستحق التقدير.
dusrud21@korea.kr
هذه المقالة كتبت بواسطة المراسلين الفخريين. مراسلونا الفخريون هم مجموعة من المراسلين حول العالم يشاركون شغفهم وحبهم لكوريا وثقافتها.