صورة لي أثناء تحضير الكيمتشي خلال صف الطبخ الكوري في معهد الملك سيجونغ بتونس. (الصورة من سلمى الكناني)
بقلم مراسلة كوريا نت الفخرية التونسية سلمى الكناني
يُعدّ الكيمتشي من أبرز الأطباق التقليدية في كوريا، وأكثرها ارتباطًا بالهوية والثقافة الكورية. نادرًا ما تخلو مائدة كورية من هذا الطبق المُخمّر الذي يُقدَّم كمقبّل 'بانتشان' إلى جانب معظم الوجبات، بل أصبح عنصرًا أساسيًا لا يُفارق الحياة اليومية في كوريا. لم أدرك سر تعلق الكوريين بالكيمتشي حتى أعددته بنفسي، وعايشت تفاصيل تحضيره من تنسيق المكونات بعناية إلى مراقبة مراحل التخمير.كانت التجربة أكثر من مجرد طهي، كانت شعورًا بالانتماء، لحظة شعرتُ فيها أنني لستُ غريبة عن هذه الثقافة، بل ضيفة مرحّب بها على مائدتها. ومن بين كل الدروس التي تلقيتها في معهد الملك سيجونغ بتونس، كان درس الكيمتشي هو الأكثر تأثيرًا.
يُحضَّر الكيمتشي باستخدام أنواع مختلفة من الخضروات، أبرزها الملفوف 'بيتشو' والفجل الكوري 'مو'، ويتبّل بمزيج غني من التوابل مثل مسحوق الفلفل الأحمر الكوري 'غوتشوغارو'، والثوم، والزنجبيل، وصلصة السمك، ما يمنحه طعمه المميّز ونكهته المتوازنة. أصبح رمزًا يحمل في طياته قصصًا عن الصبر، التقاليد، والروابط العائلية. ففي الثقافة الكورية، يُعدّ تحضير الكيمتشي نشاطًا يُورّث من جيل إلى آخر، حيث تتجمع الأمهات والجدات لنقل المهارات والوصفات بحب وحرص. هذا الطقس العائلي يُشكّل لحظة تواصل عاطفي عميقة وتُجسّد مفهوم 'جونغ' الكوري، أي الدفء العاطفي والرابط الإنساني.
يتميّز هذا الطبق الكوري التقليدي أيضًا بفوائده الصحية المتعددة، التي جعلته محط اهتمام الباحثين وخبراء التغذية حول العالم. كونه طعامًا مخمّرًا، فهو غني بالبروبيوتيك 'البكتيريا النافعة' التي تساهم في تحسين صحة الأمعاء وتقوية الجهاز المناعي. كما يحتوي على مضادات أكسدة طبيعية وفيتامينات مهمة مثل فيتامين 'س' و'ب'، إلى جانب خصائص مضادة للالتهابات. وقد أظهرت دراسات حديثة أن استهلاك الكيمتشي بانتظام قد يكون له تأثير إيجابي على توازن الكوليسترول والوقاية من بعض الأمراض المزمنة. هذا البُعد الصحي أضفى عليه قيمة جديدة تتجاوز كونه طبقًا تقليديًا، ليُصبح أيضًا جزءًا من أسلوب حياة صحي متكامل .لم يعد الكيمتشي مقتصرًا على المائدة الكورية فقط، بل تجاوز الحدود وأصبح عنصرًا حاضرًا في المطاعم العالمية.
فقد بدأت شعبيته تتزايد بشكل لافت في أمريكا، أوروبا، والشرق الأوسط، خاصةً في ظل الاهتمام المتزايد بالأطعمة الصحية والمخمّرة التي تعزز المناعة وصحة الجهاز الهضمي. كما أصبح الكيمتشي جزءًا من تجارب الطهو المبتكرة، حيث يُستخدم في البرغر، البيتزا، وحتى المعكرونة، ما يُبرز مرونته كعنصر غذائي يمكن دمجه في مختلف الثقافات. ومع صعود الموجة الكورية عالميًا 'الهاليو'، بات الكيمتشي سفيرًا للثقافة الكورية، يُعرّف الناس على عمقها وثرائها.
ومن بين الأنواع المتعددة لهذا الطبق، سأشارككم اليوم تجربتي الخاصة في تحضير نوع يُدعى 'تشونغاك كيمتشي' وهو كيمتشي مصنوع من الفجل الصغير الكامل، يتميز بطابعه التقليدي ونكهته الفريدة.
صورة التُقطت أثناء شرح معلّمتنا لطريقة تحضير الكيمتشي خلال صف الطبخ في معهد الملك سيجونغ بتونس. (الصورة من معهد الملك سيجونغ بتونس وتم الحصول على الإذن لاستخدامها)
لم يعد تعلّم اللغة الكورية في معهد الملك سيجونغ بتونس مقتصرًا على الحفظ والقواعد، بل أصبح مدخلًا فعليًا إلى فهم الثقافة الكورية من الداخل، من خلال أنشطة عملية تُجسّد القيم والتقاليد الكورية في تفاصيلها اليومية. وقد شكّلت ورشة تحضير الكيمتشي التي نظّمها المعهد يوم السبت 12 إبريل 2025، جزءًا محوريًا من هذا الأسلوب التعليمي، حيث اختبر الطلاب تجربة ثقافية غنية.
بدأت الورشة في أجواء توحي بأننا على موعد مع تجربة تتجاوز حدود الطهي، لتُقدّم لمحة عن البُعد الاجتماعي والثقافي الذي تتميز به المائدة الكورية. كانت الطاولات مجهّزة بعناية، تتوسطها مكونات الطبق التقليدي: فجل صغير، توابل متنوعة، معجون الفلفل الأحمر، إلى جانب القفازات والأواني الضرورية. كل التفاصيل كانت حاضرة لتوفير تجربة أصيلة أقرب ما تكون إلى التحضير المنزلي الذي يُمارسه الكوريون خلال موسم إعداد الكيمتشي السنوي.
صورة للفجل أثناء وضعه في الملح، وهي أولى خطوات تحضير الكيمتشي التقليدي، وتظهر معلمتنا وهي تشرح لنا تفاصيل هذه المرحلة بدقة وعناية. (الصور من معهد الملك سيجونغ بتونس وسلمى الكناني وتم الحصول على الإذن لاستخدامها، تصميم سلمى الكناني)
افتُتحت الورشة بمداخلة تثقيفية من المعلمة، تناولت فيها الرمزية التاريخية والاجتماعية للكيمتشي في الثقافة الكورية. أشارت إلى أن هذا الطبق يمثل جزءًا من تقليد موسمي جماعي يُجسّد قيم التعاون والتكافل داخل المجتمع الكوري، إذ تجتمع العائلات في نهاية الخريف لإعداد كميات كبيرة من الكيمتشي تكفي لفصل الشتاء، في تقليد يُورّث من جيل إلى آخر.
صور لي أثناء تنظيف الفجل قبل بدء تحضير صلصة الكيمتشي. (الصور من معهد الملك سيجونغ بتونس وسلمى الكناني وتم الحصول على الإذن لاستخدامها، تصميم سلمى الكناني)
بدأ العمل الفعلي بتجهيز الفجل، وقد لفت انتباه المشاركين طبيعته المختلفة عن الفجل المعروف لديهم، من حيث الشكل والقوام. بعد غسله بعناية، انتقل الجميع إلى إعداد الصلصة، والتي تتكوّن من مزيج من الثوم، الزنجبيل، الفلفل الأحمر الكوري، صلصة السمك، والسكر، ما يمنح الكيمتشي نكهته المتوازنة بين الحموضة و الملوحة.
في نهاية الورشة، وضع كل مشارك الكيمتشي الذي أعدّه في عبوة خاصة ليأخذه معه مع توصيات المعلمة بتركه في حرارة الغرفة لمدة يوم أو يومين قبل حفظه في الثلاجة لاستكمال عملية التخمير. وقد أثمرت التجربة لدى العديد من المشاركين، الذين عبّروا لاحقًا عن إعجابهم بالنتائج ودهشتهم من قدرتهم على تحضير طبق لطالما اعتُبر رمزًا من رموز المطبخ الكوري.
صورة للكيمتشي قبل وبعد الخلط. (الصورة من سلمى الكناني)
إن القيمة الحقيقية لهذه التجربة لا تكمن فقط في إعداد الطعام، بل في إدراك أن الثقافة تُعاش من خلال التفاصيل اليومية. الكيمتشي هنا كان بوابة لفهم العلاقة العميقة بين الكوريين وأطعمتهم، وكيف تشكّل العادات الغذائية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية. جسّدت هذه الورشة نموذجًا فعّالًا في تعليم اللغة من خلال الثقافة، إذ عكست قيم معهد الملك سيجونغ القائمة على الدمج بين المعرفة النظرية والممارسة العملية، مما عمّق ارتباط الطلاب بالثقافة الكورية. في زمنٍ تتلاقى فيه الثقافات وتتعدد فيه وسائل التعلم، تبقى التجربة الحيّة أكثر الطرق فعالية لترسيخ المعنى.
صورة لي أثناء محاولتي توثيق بعض لحظات تحضير الكيمتشي. (الصور من معهد الملك سيجونغ بتونس وتم الحصول على الإذن لاستخدامها، تصميم سلمى الكناني)
خلال هذه الحصة، سنحت لي الفرصة لتحضير الكيمتشي لأول مرة بيديّ، وتوثيق هذه اللحظات بعدستي الخاصة، لتبقى ذكرى خالدة أشارك من خلالها هذا الحدث مع العالم. أردت عبر هذه التجربة أن أنقل صورة هذا الطبق العريق كرمز حيّ لثقافة تنبض بالقيم والمحبّة.
dusrud21@korea.kr
هذه المقالة كتبت بواسطة المراسلين الفخريين. مراسلونا الفخريون هم مجموعة من المراسلين حول العالم يشاركون شغفهم وحبهم لكوريا وثقافتها.