الثقافة

2024.07.12

من بين ما تتميز به اللغة الكورية عن غيرها من اللغات، توجد المصطلحات رباعية المقاطع التي يحمل كل مقطع فيها معنى معين لإيصال رسالة كاملة بالمصطلح كله. وعندما أفكر في الكتب المستعملة يتبادر دائما إلى ذهني مصطلح ’غو سيك تشانغ يون‘ الذي يعني ’كلما تعتقت آثار الزمن، كلما أصبحت روعتها أكثر وضوحا‘. فالكتب المستعملة ليست مجرد كتب قديمة متهالكة مر عليها الزمان بل هي وسيلة مهمة تربط الماضي بالحاضر. وهي أيضا وعاء ثمين يضم حياة وروح الإنسان، والتاريخ والثقافة معا. عند النظر عن كثب إلى صفحاتها الباهتة البالية نشعر بالحكمة التي تركها لنا السابقون تنير بصيرتنا. وربما لهذا السبب أصبح معنى وقيمة الكتب المستعملة أكثر تميزا في عصرنا الحديث الذي لا يبالي بأي شيء سوى السرعة والكفاءة.



وو جينهوا، غيل كيو-يونغ

عند السير على ضفاف نهر السين الذي يمر عبر باريس، ستقابل لافتة خضراء اللون تجذب أنظار المارة. وهي لافتة كشك ’بوكينيست‘ الشهير الذي بقى في مكانه ليحمل تاريخ فرنسا العتيق على مر أجيال منذ القرن السادس عشر. ويبيع هذا الكشك الكتب المستعملة والكتب العتيقة أو اللوحات والبطاقات البريدية المخزنة في صندوق أخضر اللون مثل اللافتة. وتعني كلمة بوكينيست ’بائع الكتب المستعملة‘ باللغة الفرنسية وهي مشتقة من الكلمة الفرنسية ’بوكين‘ التي تعني الكتب المستعملة والقديمة.

وتم بالفعل تسجيل هذا المكان كأحد الأصول الثقافية غير المادية لفرنسا في عام 2019 ولكنه تعرض مؤخرا لأزمة الإزالة القسرية بسبب استضافة باريس لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية. ومع إعلان القرار النهائي بإقامة حفل افتتاح أولمبياد باريس على نهر السين، أخطرت الجهات المسؤولة الكشك بأمر الإزالة القسرية. وعلى الرغم من ذلك، نجحت معارضة ومقاومة الكثير من المواطنين بما في ذلك أصحاب المكتبات، في إنقاذ هذا المعلم التاريخي العريق الذي يحمل أكثر من 400 عام من تاريخ باريس. وساهمت هذه الأزمة في عودة قيمة الكتب المستعملة إلى دائرة الضوء من جديد.

يا ترى ما السبب وراء رغبة الناس في الحفاظ على الكتب المستعملة وحمايتها؟ من الصعب أن نقول إن الأمر يكمن ببساطة في كونها طويلة العمر فتلك السنوات الطويلة التي تحملها في طياتها تجعلها أيضا سميكة وثقيلة.

وكبداية، لنذهب معا في رحلة بالزمن إلى الماضي. ظهرت محلات بيع الكتب المستعملة في كوريا لأول مرة بعد التحرير والحرب الكورية (حرب 25 يونيو) على أيدي الطبقة العاملة بشكل رئيسي في صورة باعة جائلين. وازدهرت لتصل إلى ذروتها في السبعينيات مع المرور بعصر التصنيع.

الصورة على اليسار تظهر كشك بوكينيست للكتب المستعملة على نهر السين في باريس والأخرى على اليمين تظهر شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي في سيئول. ويعد كشك بوكينيست الفرنسي أحد معالم باريس العتيقة حيث ظهر لأول مرة على نهر السين في القرن السادس عشر وما زال حتى يومنا هذا يبيع الكتب القديمة والعتيقة والبطاقات البريدية المستعملة في مكانه الذي يحمل تاريخ سنوات طويلة. أما شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي فهو واحد من بين المعالم الرئيسية لبيع الكتب المستعملة في كوريا. وبدأ بيع الكتب المستعملة في كوريا لأول مرة بعد التحرير والحرب الكورية على أيدي الطبقة العاملة بشكل رئيسي في صورة باعة جائلين ثم ازدهر ليصل إلى الذروة في السبعينيات مرورا بعصر التصنيع. (الصورة على اليسار من وكالة يونهاب للأنباء واليمين من متحف تشونغيتشون)

الصورة على اليسار تظهر كشك بوكينيست للكتب المستعملة على نهر السين في باريس والأخرى على اليمين تظهر شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي في سيئول. ويعد كشك بوكينيست الفرنسي أحد معالم باريس العتيقة حيث ظهر لأول مرة على نهر السين في القرن السادس عشر وما زال حتى يومنا هذا يبيع الكتب القديمة والعتيقة والبطاقات البريدية المستعملة في مكانه الذي يحمل تاريخ سنوات طويلة. أما شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي فهو واحد من بين المعالم الرئيسية لبيع الكتب المستعملة في كوريا. وبدأ بيع الكتب المستعملة في كوريا لأول مرة بعد التحرير والحرب الكورية على أيدي الطبقة العاملة بشكل رئيسي في صورة باعة جائلين ثم ازدهر ليصل إلى الذروة في السبعينيات مرورا بعصر التصنيع. (الصورة على اليسار من وكالة يونهاب للأنباء واليمين من متحف تشونغيتشون)


ويعتبر شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي واحدا من الأماكن الرئيسية لبيع الكتب المستعملة في كوريا. وفي تلك الفترة، كان به أكثر من 200 مكتبة كتب مستعملة مزدهرة وتخطى متوسط عدد الزوار 20 ألف زائر يوميا. ويرجع السبب في ذلك الازدهار إلى تدهور الحالة الاقتصادية حينها وتفضيل القراء الكتب المستعملة عن الكتب الجديدة باهظة الثمن مما أدى إلى ازدحام مكتبات الكتب المستعملة بالناس من جميع أرجاء البلاد. وتنوعت فئات الزوار بين الطلاب القادمين لشراء الكتب المدرسية والقراء المثقفين الذين يحلمون بالديمقراطية. وفي تلك الفترة لم تكن مكتبات الكتب المستعملة مجرد متجر لبيع الكتب فقط بل كانت مساحة نشطة لتبادل المعرفة والمواهب.

ومع مرور الوقت بدأت شعلة الكتب المستعملة في الخمود تدريجيا. وبدأ سوق النشر وبيع الكتب الورقية في الركود بشكل غير مسبوق تزامنا مع بداية العصر الرقمي. ونتيجة لذلك، بدأ سوق الكتب المستعملة في التقلص أيضا بشكل تلقائي. ومع اعتلاء الصرخات التي تحذر من قدوم نهاية عصر الكتب الورقية، أصبح هذا الخوف حقيقة على أرض الواقع بسبب عدد القراء وزيادة حجم استهلاك المحتويات الرقمية عبر الإنترنت. وبالطبع، تأثرت الكتب المستعملة أيضا وتقلصت مساحتها لتكاد تكون غير مرئية.

وهذا الوضع لم يقتصر على كوريا فقط بل كان نفسه في البلدان الأجنبية أيضا. ومع انتشار جائحة كورونا، ازداد الوضع سوءا. فقد عانت حينها المكتبة الفرنسية ’شكسبير آند كومبوني‘ للكتب المستعملة ذات التاريخ العريق الذي يمتد لأكثر من 100 عام، من أزمة إدارية حول استمرارها. ومن أجل إنقاذ الموقف حينها والبقاء على قيد الحياة، قامت المكتبة بصنع نظام لبيع المنتجات عبر الإنترنت وما زال هذا النظام متاحا حتى الآن ولكن... لم يعد الوضع كما كان عليه في السابق.

وفي هذا الإطار، نجد الوضع في اليابان إيجابيا ومشجعا جدا. فلا يزال شارع جينبوتشو الواقع في طوكيو باليابان، وهو أكبر شارع للكتب المستعملة على مستوى العالم، عامرا بالزوار المحليين والأجانب القادمين من أنحاء العالم لزيارة هذا المكان المعروف بكونه أحد المعالم المفضلة لدى السياح. ولا يعتبر هذا الشارع مجرد مكان لبيع الكتب المستعملة بل هو مجمع ثقافي شامل يتمحور حول الكتب المستعملة وتنسجم فيه الثقافات المتنوعة معا. ويعتبر هذا المكان ملاذ القراء الذين يركزون على التعايش وليس المنافسة، فيستمتعون فيه بقضاء أوقات الفراغ. ولذلك يطلق عليه أيضا لقب ’جزيرة الكنز‘ وتتربع الكتب المستعملة على عرش هذه الجزيرة.

ولم تتخلى كوريا عن الكتب المستعملة أبدا حيث واصلت إدارة سيئول القيام بالعديد من المشروعات التي تسعى لإعادة ثقافة الكتب المستعملة إلى الحياة مرة أخرى منذ فترة طويلة. وفي إطار ذلك، تم اختيار شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي ضمن قائمة التراث الثقافي المستقبلي لمدينة سيئول في عام 2013. والسبب في استمرار هذه المشروعات هو استخدام الحكومة الكتب المستعملة كوسيلة لضمان حق المواطن في الاستمتاع الثقافي وفي نفس الوقت الدمج بين حق المواطن ومساعي الحكومة لجعل التراث الثقافي وسيلة لنقل قيم الماضي وذكرياته إلى الأجيال الحديثة.

ولم تكتف كوريا بذلك، بل أسست مكتبات عامة للكتب المستعملة مبنية على نظام فريد من نوعه خاص بكوريا. ومن الأمثلة الرئيسية لهذه المكتبات، مكتبة ’سيئول بوك بوغو‘ التي أسستها إدارة سيئول بالتعاون مع مكتبة سيئول العامة في عام 2019 وتحتفل هذا العام بالذكرى الخامسة لتأسيسها.

الصورة تظهر أرفف الكتب المصنوعة على هيئة دودة الكتب في مكتبة ’سيئول بوك بوغو‘ العامة للكتب المستعملة التابعة لإدارة مدينة سيئول. (الصورة من مكتبة سيئول بوك بوغو)

الصورة تظهر أرفف الكتب المصنوعة على هيئة دودة الكتب في مكتبة ’سيئول بوك بوغو‘ العامة للكتب المستعملة التابعة لإدارة مدينة سيئول. (الصورة من مكتبة سيئول بوك بوغو)


وقامت إدارة سيئول بتأسيس تلك المكتبة عن طريق تجديد مساحة غير مستخدمة في مستودع تخزين، وتبيع حاليا أكثر من 130 ألف كتاب مستعمل من 33 مكتبة كتب مستعملة. وهي تعد مساحة يستطيع فيها القراء العثور على الكتب المستعملة من جميع أنحاء البلاد في مكان واحد.

وتم تقسيم المكتبة ليس حسب نوع الكتب أو الترتيب الأبجدي للعنوانين كما نرى في المكتبات العادية، بل حسب مكتبة البيع نفسها. ويرجع السبب في ذلك إلى الرغبة في إضفاء الطابع اليدوي الخاص بمكتبات الكتب المستعملة على أجواء المكتبة مع الحفاظ على هوية كل مكتبة من المكتبات. وتركز هذه المكتبة على منح الزوار فرصة لقاء الكتب بالصدفة عن طريق الشعور بجمال التريث في ظل الحياة في هذا العصر الحديث الذي لا يهتم سوى بالسرعة والكفاءة.

وعلى الرغم من مخاوف الجميع، إلا أن مكتبة سيئول بوك بوغو حققت نجاحات كبيرة ففي عام 2019 قبل انتشار كورونا، كان يزورها أسبوعيا 8500 شخص تقريبا. وعلى عكس التوقعات بأن يكون زوارها أشخاصا من فئة منتصف العمر، إلا أن أغلبية الزوار كانوا من فئة الإناث في العشرينيات حتى الأربعينيات أو فئة العائلات الذين سمعوا عن المكان من مواقع التواصل الاجتماعي. وجدير بالذكر أن عدد الزوار الأجانب أيضا لم يكن قليلا بفضل ظهورها في الدراما الكورية ’فندق ديل لونا‘ التي حظت بإعجاب كبير على مستوى العالم بعد عرضها على منصات البث الإلكتروني.

وصرح لي هان-سو رئيس فريق التخطيط في مكتبة سيئول بوك بوغو حول ما تمثله الكتب المستعملة للزوار قائلا "الجيل الأكبر يشعر بالحنين تجاه الكتب المستعملة أما الجيل الأصغر فيراها ثقافة جديدة وتجربة حيث أنه لم يسمع عنها سوى في الكتب أو محتويات الفيديو".

مكتبة سيئول بوك بوغو تنظم فعاليات مجانية متعددة للزوار شهريا مثل المعارض والحفلات والعروض. وتظهر الصور بعض الكتب المعروضة في المكتبة. (الصورة من وو جينهوا)

▲مكتبة سيئول بوك بوغو تنظم فعاليات مجانية متعددة للزوار شهريا مثل المعارض والحفلات والعروض. وتظهر الصور بعض الكتب المعروضة في المكتبة. (الصورة من وو جينهوا)


ولم تعد الكتب المستعملة في عصرنا هذا مجرد أغراض قديمة في الخزانة يتراكم عليها الغبار حيث بدأ الاعتراف بها كتراث ثقافي له قيمة ويجب حمايته والمحافظة عليه.

ووفقا لما ورد في إحصاءات معرض باريس الدولي للكتاب، فإن سوق الكتب المستعملة في فرنسا يتوسع منذ عدة سنوات وحقق في عام 2022 مبيعات بقيمة 350 مليون يورو عن تداول إجمالي 80 مليون كتاب مستعمل. وبهذا الصدد، صرح جان مارك ديشود رئيس الاتحاد الوطني للمكتبات القديمة والحديثة بأنه في العام الماضي تخطى عدد مكتبات الكتب المستعملة في فرنسا 2000 مكتبة وتراوحت المبيعات السنوية لهذه المكتبات ما بين 200 مليون إلى 300 مليون يورو.

وبدوره، أخبرنا رئيس فريق التخطيط لي قائلا "الدول الأجنبية حاليا تتعامل مع الكتب المستعملة على أنها تحف وقطع فنية ويتم عرضها في المزادات التجارية كما أنها صنعت بيئة خاصة تستطيع فيها الكتب المستعملة أن تتعايش وسط وجود المكتبات الكبيرة"، وتابع "كوريا لم تصنع سوقا خاصا بالكتب المستعملة بعد ولكن مظاهر التبادل النشط لقيمة الكتب المستعملة واضحة جدا في مجتمع محبي الكتب المستعملة وتتوسع في الانتشار تدريجيا أكثر وأكثر".

وعلى الجانب الآخر، أكد السيد هيون مان-سو مدير مكتبة الأدب المسيحي الذي يدير مكتبة كتب مستعملة في شارع الكتب المستعملة على مسار تشونغيه المائي منذ 35 عاما، قائلا "يجب أن تزدهر مكتبات الكتب المستعملة حتى يتمكن قطاع النشر من البقاء ويحدث تنوع وتطور ثقافي أكثر. ولكي نعيش جميعا يجب أن نتعاون معا مثل التروس". وأكد مرة أخرى على أن الكتب المستعملة ومكتباتها يجب ألا تندثر أبدا.

وشدد رئيس فريق التخطيط لي أيضا "هناك الكثير من الكتب التي يتم نشرها والتي تندثر بشكل يومي، وتعد الكتب المستعملة هي الكتب الأكثر قيمة من بين ما يختاره القراء". وربما يأتي الزمن الذي نفكر فيه بجدية حول قيمة الكتب المستعملة.

مكتبات الكتب المستعملة ليست مجرد مكان لشراء الكتب بسعر أرخص من المكتبات العادية فقط. هي تحتفظ بتاريخ الورق الذي مر عبر الحروب، وتجارب وأخطاء دور النشر والكُتاب، والتغيرات في تكنولوجيا وتقنيات الطباعة، وحياة البشر، وحكم ومزح الأسلاف، وألوان العصور وخطوطها فهي تتمتع برومانسية وشغف بلا نهاية.

-مقتطف من كتاب ’مكتبة قديمة جدا‘ للكاتبة اليابانية ميتسويو كاكوتا-


jane0614@korea.kr

محتوى متعلق