عرض كتاب : من أكل الشينجا كلها؟ .. لبارك وان سوه
مدد ذراعيه، بأقصى ما تستطيع، ثم تنفس بعمق، وتعمق في أغوار نفسك، وادخل بداخلك بأقصى ما تستطيع، وحاول أم تلمس أصغر شيء موجود في أدنى قاع من ذاكرتك، وهو المكان الذي تجلس فيه شخصيتك ونفسيتك بهدوء في انتظار ظهورك.
هناك، في أسفل إرادة نفسك، يمكنك أن تتكيء بأقصى ما تستطيع لكي تصل إلى الأركان السفلى من الأعماق، وهناك ترقد الحدود العابرة بين الذاكرة والخيال، وهناك، وبين هذين العالمين، تكمن خبايا رواية بارك وان سوه "من أكل الشينجا كلها"؟ الصادرة عام 1992، والتي تسألك حقا : من أنت، وما هو أنت؟
إنه أمر مؤثر، رواية شخصية دافئة تروي قصة طفولة ريفية رعوية، تليها فترة منتصف الطفولة ثم فترة المراهقة والمراهقة المتأخرة، وكيفية التأقلم مع المدينة الكبيرة.
وهذه القوالب من الدفء تملأ ما يقرب من ثلثي الرواية، يتم حرقها مثل ضباب الصباح بفعل شمس الظهيرة للكشف عن مساء السلطوية، والانتقام وبعد ذلك الإنسانية المسكينة التي تخرج من رحم الخوف، خوف حقيقي.
والرواية تغزل سويا الطفولة والأسرة والطبيعة والأبوين والأجداد وبعد ذلك مزيدا من الأزهار والأشجار والأنهار الصغيرة والخضروات والجبال.
تغزل سويا الاستعمارية مع الحياة الحضرية مع الاستقلال والحرب الأهلية.
تغزل سويا المدرسة الابتدائية مع المدرسة الإعدادية مع المدرسة الثانوية مع الجامعة.
وتنتهي بتحطم سفية السلطوية في الأيام الأولى من جمهورية كوريا الحديثة، بحثا عن اللون الأحمر، الحمر في كل مكان.
وهذه الرواية صدرت في عام 1992، عندما كان عمر الكاتبة 61 عاما، وبعد أن كتبت الكثير من الروايات الأخرى التي تتخذ صورة السير الذاتية على مدى عشرين عاما، وذروة انفتاحها تكشف عنها كأستاذة في صنعتها.
كيف تكتب؟
وربما يكون شخص ما مشهور قد ذكر يوما ما إن الكتابة أمر سهل : فقط اجلس أمام آلة كاتبة، ثم أعد يديك للكتابة، وانطلق بالكتابة على الصفحة.
وعندما نقرأ "من أكل الشينجا كلها"؟ نغوص في ذاكرة بارك وفي مخيلتها، ونسبح إلى الخلق وإلى الأمام بين الإثنين : السباحة في دمائها الدافئة المجازية، والسباحة في التدفق القادم من قلبها وعقلها، وهي تجعل الأمر يبدو سهلا للغاية.
وينسج أسلوب بارك العميق في الكتابة والبساطة المذهلة والوضوح والأمانة رواية مثل الريش الناعم الذي يعوم على نسمات عطرية من شجرة ياسمين.
يلهو الأطفال في الحي المتسخ وتحت الأمطار، في خضم الغابات والأشجار الريفية، وينزلون إلى المجرى المائي للوصول إلى الحدائق المحيطة بالمبنى الخارجي، وهذه هي الذكريات، وأصيب الجد بأول أزمة قلبية في الصفحة الثامنة، وقبل الصفحة التاسعة، أطلقت الأم تمردا، وأرسلت شقيقها إلى سيول للدراسة في مدرسة ثانوية.
وفي مكان ما وراء عالمه الطفولي، توجد حرب مندلعة بين اليابان والصين، وبعد قليل، اندلعت حرب أخرى في مكان ما وأبعد من ذلك، بين اليابان والولايات المتحدة.
إلا أنه في سن الخامسة أو السابعة أو التاسعة، كما تدور أحداث الرواية، فإن هذه الأحداث العالمية تبدو بعيدة بعيدة للغاية.
ومواعيد الأحداث العالمية وواقع الاستعمار والإمبريالية يتواجدان فقط لأننا - كبار هذه الأيام - نعرفهم اليوم.
وبالنسبة للطفل في ذلك الوقت، يفترض أن تكون حياته من خلالهم، وكلهم أيضا يبدون بعيدين، بعيدين جدا.
والتنين الطائر فوق نباتات الأزاليا تعد من الأمور التي تبدو أكثر واقعية.
"الأمطار الغزيرة التي واجهتنا هناك قدمت لنا فرصة مشاهدة رائعة، فقد يفكر أطفال سيول في أن الأمطار تنزل من السماء، ولكننا علما الحقيقة، وهي أنها هبطت من الحقول مثل الجنود، وعندما كنا نلعب، كنا نستحم أسفل الشمس القاسية، ولكن بمجرد أن يأتي الظل من الحقول القريبة، كنا نشاهد ستارة من الأمطار تتجه نحونا، وكنا نعود إلى المنزل بسرعة كبيرة، ونحن نتصايح، ونحن واعون بسرعة تحرك هذا الستار".
وكانت الأمطار شيئا أكثر واقعية.
الواقعية هنا هي ما يبدو أمامك، ففي الريف، أمامك الحيوانات والنباتات والجداول والتلال والشامان والطقوس والعواصف المطيرة والأصدقاء والأجداد والأمهات والخالات والعمات وأبناء العم والبق والمواسم.
ولكن في المدينة، الحياة لها نظام : الشجاعة في استخدام اسم ياباني في المدرسة الابتدائية، اتخاذ أصدقاء جدد، العار أو الوضع الاجتماعي الذي يأتي من استخدام اسم كوري أو ياباني، الحصول على كرات مطاطية مجانية أثناء احتلال إندونيسيا وماليزيا، ولكن الحصول على أحذية مطاطية فور اندلاع الحرب بشكل سيء بالنسبة لليابان.
ولاحقا، يوجد تقنين أساسي للسكر، واحتفالات في المدرسة لتكريم الملك الياباني، ولكن الواقعية أيضا تمضي إلى المكتبة أيام الأحد، لتتسلق الممر الجبلي فوق جبل إين وانج سان للوصول إلى المدرسة والعودة إلى بلدة الجد الذي توفي بعد أزمته القلبية الثالثة.
العواطف :
الأضواء الساطعة للمدينة الكبيرة لم تبهر الشابة بارك في واقع الأمر، ولكنها مرت بها بشكل عابر، والشيء الأكثر أهمية هو مثل معظم من هم في سن ما قبل المراهقة هو الصورة والطريقة التي يفكر بها الناس عنا، وعن أصدقائنا، وبالتأكيد آبائنا وصغارنا، فالأم والأب في كل مكان، وبارك الصغيرة تتحرك برباطة جأش من الأسفل القديمة والخشبية والحوائط الطينية إلى الكتب الأسمنتية والطرق الأسفلتية، وكانت والدتها الصخرة التي لا تتحرك التي كانت تتعلق بها.
ومثل باقي من هم تحت سن المراهقة في أي مكان، كانت بارك متعلقة ومرتبطة بوالدتها، وكانت والدتها هي عمودها الفقري، فكانت تتحرك من حياة المصابيح إلى التواجد الكهربائي، تتحرك من المجاري المائية الصغيرة المتدفقة والأنهار إلى عبوتين من الماء فقط كل يوم، واللتين كانت تحصل عليهما من عامل كلك صباح، وكانت الأم دائما هناك.
والكثير من عواطف بارك المجردة هي الإنسانية الأساسية، ولكن الكثير منها أيضا جزء من كرامة اطفل، وهي تصف أول منزل لها في سيول الواقع في التلال فوق ما يسمى اليوم ببوابة الاستقلال، بمحاذاة خط مترو الأنفاق رقم 3، وتصف البيئة الجديدة المحيطة بها بالتأكيد، ولكنها تستطيع أيضا أن تصف قبولها لحياة الكبار المبكرة التي مرت بها، فتقول : "إحساسي الخاص بالجمال تطور تحت تأثير الجماليات التي تم تناقلها على مر القرون، والصدر الذي واجهني هنا من أوراق وظيفية وألوان مبتذلة أهانت إلى عيناي" ، وهذه هي الطريقة التي ينمو بها البشر.
والعواطف المركبة لفترة أواخر الطفولة والتواجد في مرحلة ما قبل المراهقة كانت تروح ذهابا وإيابا مع دخول سيول في تجارب منتصف القرن العشرين.
وعندما يحاول طفل أن يكون بالغا، ولكنه ما زال مراهقا صغيرة، أو عندما يحاول مراهق من جديد أن يكون بالغا، ولكنه يبقى طفلا لكثير من الاعتبارات، فإن العواطف يمكن أن تتفجر.
ونطاق العواطف التي تنطلق العار والإحراج الذي يحدث في الأسرة الواحدة، ومرورا إلى دموع الحب المتدفقة بحرية التي يمكن أن تذرفها فقط على أسرتك، كل ذلك يغطي بارك الشابة كما نتابعها هي وأسرتها من خلال الحياة الريفية واستقرار الحياة في ظل الاستعمار، وكذلك في خضم فوضى الحركة الاستقلالية في أغسطس 1945، ومرورا أيضا بأشهر النهب والوحشية، والفوضى والخوف اللذان تولدا بسبب الصراع الكوري الأهلي بين الأشقاء من 1950 إلى 1953.

أصدرت بارك كتاب "من أكل الشينجا كلها"؟ في عام 1992 وهي في سن 61 عاما، وقد كتبت روايات كثيرة عن سير ذاتية أخرى على مدى السنوات العشرين السابقة لها.
الإمبراطورية :
كانت المدرستان الابتدائية والإعدادية لبارك في سيول جزئين حقيقيين من إمبراطورية، كما كانت مدينة سيول نفسها، حيث كان هناك انتقال يربط مع الدول الأخرى والقبائل والشعوب المتاخمة، فكان القطار ينطلق من بوسان إلى سيول إلى شينويجو على ضفاف نهر يالو، وبعد ذلك إلى موكدين في جنوب منشوريا، وهي شين يانج في إقليم لياو نينج اليوم.
وبكثير من الأحوال، كانت كوريا في الثلاثينيات والأربعينيات أكثر اتصالا مع الأراضي المحيطة بها في منشوريا وهونشو وتايوان وأوكيناوا وبالتأكيد كوريا الشمالية الآن، ثم الدولة الحديثة لكوريا الجنوبية، وذلك طوال معظم فترات أواخر القرن العشرين.
وفي محطة قطارات سيول، كانت بارك شاهدة على المهاجرين المتجهين شمالا إلى شين يانج وإلى هضاب منشوريا للبحث عن حياة جديدة لأنفسهم.
وكانوا ينتظرون مع مراتب نومهم في محطة سيول استعدادا للتوجه إلى محيط أراضي الإمبراطورية.
وحتى صفحة 59، تبدأ المدرسة الابتدائية، وتدخل اللغة اليابانية إلى المشهد، تذكر : كل الأطفال كانوا يتحدثون الكورية، وكان يتعين على السلطات تعليم الأطفال كيف أن يكونوا يابانيين، بأي وسيلة كانت، أو على الأقل : كيف يكونوا مواطنين تابعين للإمبراطورية، وكل هذه التناقضات الاجتماعية والعرق والجنس والقبيلة والهوية، لم تمنع الحكومة الاستعمارية من "خلق" مواطنين، عبر توجيههم بمحاضرة تلو الأخرى، وفي واقع الأمر، لم يكن التفوق الصادم للاستعمار واضحا بالنسبة لنا، بعد مرور قرن من الزمن، ولكنه كان مرئيا لدى الأطفال أنفسهم.
"لم ندخل الفصول الدراسية لمدة شهر تقريبا، ولكن كنا فقط نردد الأغنيات ونلعب الألعاب في أرض المدرسة، ونحن نتعرض لمطاردة مدرسينا، وتدريجيا، أصبحنا معتادين على المصطلحات اليابانية التي أطلقوها على منشآت المدرسة، وكنا ننظر من خلال أعين الأطفال، وبالنسبة لبارك، فقد كان الأمر بريئا ومليئا باللهو، ولكن بالنسبة للكبار، كنا نرى الواقع الأليم للنظام الاستعماري الإمبريالي، وكان الأمر أشبه بمشاهدة أوزيماندياس وهو يشيد تمثاله ويرى النتيجة النهائية".
وعندما ننظر إلى التجربة النهائية للحكم الاستعماري الياباني، سنجد أنه كانت هناك عنصرية، وقمع نفسي، وعنف شخصي في تطبيق النظام، ومن اليوم الأول لوجود بارك في المدرسة الابتدائية، كنا نشاهد العنف المادي لثقافة اليابان وتعليمها ومجتمعها وسياستها الإمبريالية واستراتيجيتها الاستعمارية، وتم تأسيس المدارس الابتدائية التابعة لليابان الإمبراطورية في سيول في صورة عقاب مؤسسي، وتصف بارك ذلك أفضل وصف بعباراتها قائلة : "كانت مدرستنا تعرف كيف تعاقبنا بقسوة بدون أدنى مجهود، وكأنها فقط ترفع إصبعها، فقد كانت لديها طالبتان تجعلانهما تواجهان بعضهما البعض وتتبادلان الصفع على الخد إلى أن تطالبهما بالتوقف، والسبب الأساسي لنشأتنا بصورة وحشية هو أنه كان من الصعب ألا تشعر بأن رفيقك يحصل على الشيء الأفضل منك، وقد جعلنا هذا نشعر بقسوة أكبر، "يمكن إعادة ذلك من خلال عالم الإمبراطورية اليابانية، في طفل بعد طفل، وعندها ستبدأ في فهم العنف غير الإنساني والمقاومة الوحشية التي كان يواجهها تشيانج كاي شيك ودوجلاس ماك آرثر، واللذان كانا يكافحان ضد الكيان الياباني.
وكان العنف متوارثا في النظام بأكمله.
الحرب العالمية الثانية : بعد أن بدأت الحرب اليابانية الصينية، وبعدها الحرب اليابانية الأمريكية، وساء الوضع بالنسبة لليابان عقب شتاء 1942 - 1943، أصبحت حياة سكان سيول أكثر صعوبة، كانت حياة صعبة، ولكنها لم تكن مدمرة تماما، وفي واقع الأمر، يبدو أن كوريا، أو على الأقل سيول، كانت على ما يرام بعد خروجها من الحكم الاستعماري، ومن الحرب العالمية الثانية بشكل عام.
وفي ذروة الحكم الاستعماري الياباني خلال هذا الشتاء، كانت بارك في عامها الأخير في المدرسة الابتدائية، وعندما كان العام الدراسي الجديد يبدأ في مارس 1944، كانت هي في العام الأول من المرلة الإعدادية، وكانت الإمبراطورية تنهار من حولها، رغم الحياة الجيدة من الناحية الشكلية.
وقبل ربيع عام 1945، ومع بداية الفصل الثامن، كييجو، وهو لقب سيول الاستعماري، تم إبلاغها بضرورة الرحيل، وبالفعل، رحل بعض الناس، والبعض الآخر لم يرحل، وعادت أسرة بارك إلى كايسونج، وكان خالها صاحب محل الثلج من مهربي السوق السوداء، وكان الطعام أمرا نادرا، وكانت الشرطة تصادر الأرز، وكان يجب تهريب الحبوب إلى سيول من الريف، وكان على بارك أن تبدأ عامها الثاني من المدرسة الإعدادية.
انتهت الطفلة، وجاءت المراهقة.
وكان انهيار اليابان الإمبراطورية الذي انتهى إلى فوضى أغسطس عام 1945 في أنحاء سيول أشبه بمعطف من الصوف يتمزق بفعل شد خيط واحد منه، خيط بخيط، جزء بجزء، ببطء طبعا، ولكن لم يكن من الممكن تجنب ذلك، وانحسرت الموجة اليابانية، وبعد ذلك ذهبت تماما.
وقبل أواخر عام 1945، تحولت مخاوف بارك من مخاوف مراهقة ووالدتها إلى مخاوف تجاه حصص الغذاء والجنود الأمريكيين والجنود السوفييتي، واختبارات دخول الجامعة، وقالت في لحظة ما : "شعرت بأنني أقف لفترة ليست طويلة على تل .. كما لو كنت أقف بين عالمين مختلفين تماما، وشعرت بانجذابي بشكل لا إرادي إلى هذا العالم المجهول، ولكنني أردت في الوقت نفسه أن أتخذ خطوات قليلة للخلف "تقف بطلتنا على الحافة، وتستعد للسقوط".
حرب كورية :
إلا أن ما دمر كوريا لم يكن انسحاب القوات اليابانية، ولكن كوريا تمكنت من العيش لسنوات أخرى قليلة في ظل الاحتلال العسكري المشترك من جانب الولايات المتحدة وقوات الاتحاد السوفييتي، حيث كانت الأحزاب السياسية المحلية والمنظمات الوطنية تعمل في مختلف أنحاء المدن، وكانت بارك وأسرتها قادرين على الانتقال ذهابا وإيابا بين كايسونج وسيول، وهو من الفولكلور الأساسي في المدينة للحصول على الأرز، وكانت كايسونج جنوب خط العرض 38 مباشرة، ولكن إلى الشمال من سيول، واحتلها الجيش الأمريكي أولا، وبعد ذلك تمركزت فيها اقوات السوفييتية، وكان ذلك أمرا معتادا في الفترة ما بين 1945 إلى 1948، وكان المدنيون يسيرون بحرية ذهابا وعودة، إلا أن القطارات كانت مزدحمة للغاية، ولم تكن تسير بشكل منتظم.
ومع ذلك، الأمر المهم بالنسبة لعالم اليوم، ولرواية بارك نفسها، كانت في جرائم قتل الأشقاء لبعضهم البعض التي ستبدأ في الظهور، الحمر ضد الوطنيين، والشيوعيون ضد الفاشيين، والراديكاليون ضد الراديكاليون، وكل هذه الأشكال من الهويات والوطنيات الكورية، مزقت المجتمع بفعل ما تعرضت له من قمع استعماري لفترة طويلة، وذلك فور ابتعاد الاستعمار، وهذه الحرب الأهلية الأخوية بلغت ذورتها في الفترة من 1945 إلى 1950، ثم ازدادت سخونة من 1950 إلى 1953، بعد أن حقق ماو نصرا كبيرا، وبعد نهاية ستالين.
ووفقا لما قاله وادا هاروكي، فقد كانت هذه حربا أهلية بين الكوريين، واختتمت بحرب إقليمية بين الجيش الأمريكي المتمركز في اليابان وجيش ماو الشيوعي الذي خرج للتو من انتصار، وبعد ذلك اختتمت بالحرب العالمية الباردة بين واشنطن وموسكو، وقد مزقت هذه الحروب الجسد الكوري سياسيا ودمويا، تماما مثلا مزقت نسيج عائلة بارك.
ذهابا وإيابا :
سقطت سيول لجيوش كيم إيل سونج اتي يدعمها السوفييت في الفترات الأولى من الحرب يوم 28 يونيو 1950، ويوم 25 سبتمبر من العام نفسه، استعادت القوات الأمريكية والكورية الجنوبية سيطرتها عليها.
وبعد هذا التبادل، ومع بدء تراجع القوات الكورية الشمالية صوب الشمال، تكتب بارك تقول : "كل رجل كوري مجند ما زال على قيد الحياة لم يكن أمامه مفر أو مهرب، فكلهم تعهدوا بمواجهة مصيرهم، وكل فرد كانت لديه خشية من الوقت أصبح أكثر حدة، ولم يعد أكثر رغبة في العيش بشكل طبيعي، والذين لم يتمكنوا من مواجهة التجنيد الإجباري في القوات الكورية الشمالية امتلأوا بدموية وشهوة للانتقام، وبقينا في حالة حرب .. ولم يكن هناك أي شيء مرعب أكثر من أن هنام حربا أهلية تعيش فيها لكي تقتل أو تتعرض للقتل، وكان العدو إما من جلد مختلف أو من لغة مختلفة، وكانوا في النهاية ينتمون إلى الحزب الشيوعي، ولكن بالنسبة لنا، كانت الوطنية ومعاداة الشيوعية هي هويتنا، ولم يكن من الممكن لأي منا التعايش مع الآخرين".
ويمكن أن تضيف الآن إلى هذه الفوضى الاحتلال الشيوعي، وهذه المرة من جانب الصينيين، فبعد عام من الصراع المرير في الحرب الكورية، تلقى ماو في أول أكتوبر 1950 طلبا من ستالين بإرسال قوات إلى الحرب الكورية، وبخاصة بعد أن أصبح الجيش الأمريكي قريبا جدا من النصر، ولهذا، سقطت سيول من جديد في يد القادمين من الجنوب، وهذه المرة من جيش متطوعي التحرير الشعبي الصيني PVA بحانب جيش الشعب الكوري KPA يوم 4 يناير 1951.
إلا أن القوات المشتركة بين الجيش الأمريكي وقوات جمهورية كوريا نجحت فقط في الدفاع عن سيول، وفي النهاية، ويوم 14 مارس 1951، دفع الجيش الثامن الأمريكي قوات جيش التحرير الشعبي الصيني وجيش الشعب الكوري خارج سيول من جديد، ولكن هذه المرة للأبد.
وكانت هذه هي المرة الرابعة التي يتغير فيها الطرف المسيطر على العاصمة في تسعة أشهر، وكان سكان ما قبل الحرب حوالي 1,2 مليون نسمة، ولكنهم انخفضوا بعدها إلى نحو مائتي ألف، وكان هذا بسبب نقص الغذاء، وكانت هناك حالة من الفوضى، وكان هناك خونة، وكانت هناك حالات وفاة، وكان الجيران ملتصقين بالجيران، وعاشت بارك وان سوه في خضم كل هذا، فكانت تعتني بأسرتها الممتدة التي يوجد فيها ولدان صغران، وكانت أيضا تعتني بشقيقها المصاب، وتساعد والدتها وأخت زوجها.
ولكن كانت القوات الكورية الجنوبية تقدم أداء أسوأ، بعد أداء القوات الكورية الشمالية والصينية، رغم سيطرتها النهائية على العاصكة، فقد كان هناك عدوى اسمها "الخوف الأحمر"، فلم تكن هناك أي طريقة واضحة للتمييز بين "كوري شمالي"، و"شيوعي"، وكان الكوريون الجنوبيون الكسيطرون حديثا يتسمون بالقسوة في تعقب الخلايا المريضة، فور اكتشافهم لها في المجتمع.
وتصف بارك بشكل عملي هؤلاء العائدين عندما كانوا يهربون من سيول، وبخاصة أولئك الذين كانوا من حكومة كوريا الجنوبية الجديدة، فتقول : "ربما الشعور بالذنب كان يدفعهم لاستعراض قولتهم بشكل أكثر قسوة، وعلى خلاف ذلك، لم يكن ذلك ممكنا بالنسبة للحكومة التي أظهرت شهامة ووفاء تجاه مواقف المتعاونون مع اليابان، أن تتسم بالقسوة في تلك الفترة".
فقد كان الكوريون الجنوبيون يكرهون الكوريين الشماليين، ولكن المتعاونين مع اليابان، كانوا على ما يرام.
.jpg)
بعد نشر النسخة الأصلية بالكورية في عام 1992، نشرت صحافة جامكعة كولومبيا النسخة الإنجليزية من رواية "من أكل الشينجا كلها"؟ في عام 2009، من ترجمة يو يونج نان وستيفن إيبستاين.
أجدادك :
ولد الناس في كوريا في الفترة ما بين عامي 1920 أو 1940، ولذلك، فالناس الآن في أواخر السبعينيات أو أواخر التسعينيات هذه الأيام، وبالتالي فقد شهدوا لحظات تاريخية في الانتقال من الريف إلى المدينة.
وقد ولدوا مع الأبقار والشوارع المتسخة، وهيه أشياء اختفت من حياتنا الآن، وحل محلها الزجاج والصلب وشرائح السيليكون.
وكانت بارك وان سوه في قلب هذا الجيل، فقد ولدت في ظل الطقوس الشامانية، وتوفيت في ظل الطبي الحديث، وإذا نقبت في حياة أي كوري جنوبي حديث، يمكنك أن تجد أيا منهم يحن للماضي الريفي أو الرعوي.
وهذا الوعي بالتاريخ، والشعور بالفخر لتقدم الإنسانية تجدهما في كل أحداث الرواية، وهما ظاهران أيضا في الهويات الكورية الحديثة.
ومن الممكن أن الغربيين، وهم ينظرون إلى خلفيات ظهور الحياة الكورية الحديثة، قد يجدون غرابة في أن نظاما ديكتاتوريا حكم سيول لفترة طويلة من الوقت بعد الحرب الأهلية.
ففي الفترة من بين عامي 1948 و1988، دعمت الولايات المتحدة، أو على الأقل قبلت، بوجود ديكتاتورية في سيول.
وبالفعل، عاش الشعب الكوري الجنوبي نفسه بشكل عملي مع ديكتاتوريتهم، وربما لا توفر قراءة النصوص التاريخية وحدها سببا لذلك، ولكن بارك، مشكورة، ألقت من خلال الأدب بعضا من الضوء على هذه النقطة.
فالأدب يفسر الحياة الكورية الجديدة بشكل أفضل من السجلات التاريخية المجردة.
الكتاب نفسه :
شينجا .. كلمة كورية تعني "أكونوكونام بولي مورفوم"، وهي شجيرة لزهرة جبلية منتشرة في أجزاء من منوريا وشبه الجزيرة الكورية، وفي واقع الأمر، فإن أودية أكونوجونام بها مجموعة كبيرة من الشجيرات الجبلية المزهرة، ولكن في كل الأحوال، إنها مصطلح غريب بالنسبة للقاريء الكوري، تماما مثلما هو كذلك بالنسبة للقاريء الغربي.
ووفقا للمقابلات، فإن بارك اختارت هذا العشب غير المعروف لسبب : فقد أرادت أن تقدم إحساسا بالغرابة والخروج عن السيطرة وعدم الارتباط.
وعندما تسير بارك في التلال صعودا وهبوطا من منزلها الأول في سيول متجهة إلى مدرستها الابدائية، من خارج جدران المدينة إلى المدرسة الواقعة داخل هذه الجدران، يكون لزاما عليها إحصاء النباتات والأشجار والطيور التي تعلو جبل إين وانج سا.
وفي الريف، تختفي النباتات، وعلى الجدران العارية التي تغطي سيول، تسأل نفسها يوما "من الذي أكل الشينجا كلها"؟ لأنها لم تكن ترى أي نبات ينمو.
ولدت بارك وان سوه في أكتوبر 1931، وتوفيت في يناير 2011 عن 79 عاما، ولم تكتب روايتها الأولى إلا في أوائل الأربعينيات، وتحديدا في السبعينيات من القرن الماضي.
وعلى الرغم من ذلك، كانت فترة طفولتها هي الأساس الذي قامت عليه معظم كتبها، وقد صدرت بعد عقدين من أول ظهور لها، وكانت رواية "من أكل الشينجا كلها"؟ هي حكاية طفولتها.
وقد صدرت هذه الرواية في عام 1992 تكريما لتاريخها وشعبيتها في السوق الكورية، ويقال إنك إذا أردت أن تفهم أجدادك فعليك أن تقرأ هذه الرواية.
وفي عام 2009، نشرت صحافة جامعة كولومبيا الرواية بالإنجليزية، وكان المترجمان يو يونج نان وستيفن إيبتاين، مما ساعد على نقل رواية بارك إلى جمهور عالمي.
وكانت بارك في الرابعة من عرمها عندما استسلمت اليابان الإمبراطورية إلى الولايات المتحدة، وكانت بين التاسعة عشرة والثانية والعشرين عندما اندلعت الحرب الكورية في أنحاء شبه الجزيرة ثم انتهت، وكانت الحرب هي الفصل الأخير في هذه القصة.
ولكن في قلب الرواية، يتذكر شخص كبير السن طفولته وشبابه، ويطرح سؤالا عن الهوية.
وقراءة هذه القصة أشبه بالسفر إلى عمق الركود الذي يعتري هويتنا وذاكرتنا، فهي الجدار الذي يحدد قصتنا.
من أنت؟ ومن هو أنا؟ بالتأكيد أنت ترى نفسك في أي صورة من صور طفولتك، فتعرف أنه أنت، ولكن إلى الآن، هل كل من الإثنين هما نفس الشخص؟ هل شخصيتك في الشباب وأصدقاؤك هم أنفسهم وأنت كبير؟ ما هو الشيء في حياتك الذي خلقك؟
بالنسبة لبارك، إنها ذكريات طفولتها، فها هي بارك أمامنا، جدة عمرها 61 عاما، وهي على قيد الحياة، وتعيش بشكل جيد في كوريا الصناعية المليئة بالزجاج والصلب في أوائل التسعينيات، وهي تكتب عن المزارع والحقول التي عاشت فيها في شبابها.
وبالنسبة لبارك، فإن هذه هي الذكريات التي تحدد من هي.
"البيوت المتفوحة التي نشأت فيها كانت نظيفة لدرجة أنني كنت أتناول العصيدة بداخلها، كانت مليئة بالحجرات، وأحيانا كبيرة مثل 3 أو 4 كان، بإطار خشبي في أحد الأركان، بحيث يستطيع الكبار الاهتمام بأعمالهم، وكان الأطفال يلهون فقط على الأرض المتسخة، وكانت المنطقة تشبه الظل، وكانت الأرضية مائلة لتسمح بالأتربة بالنزلاق من عليها، ولكن في قسم آخر، كانت هناك مخلفات المطبخ يتم إلقاؤها....".
"كنت أخرج من منزلي مع بعض صديقاتي، وإذا كان الأطفال يلعبون ويسألني أحدهم : من يريد أن يلعب الاستغماية؟ كان الآخرون يردون بعدها، وبنفس الطريقة الشريرة التي كان البعض يقترح فيها الذهاب في رحلة إلى المنزل الخارجي، وكنا نتبعه جميعا ..."
"وكانت هناك متعة في الاستناد على بعضنا البعض والدردشة، فكانت متعة رائعة، وعندما نكون في طريق الاختباء، كانت حكاياتنا الصغيرة تنتهي عادة بعبارات أووه وآاااه".
"هل سمعت شيئا عن كلب الكابسون؟ إن لديه ستة كلاب صغيرة، ولكن أنصت إلى هذا، الكلب أصفر، ولكن لا يوجد أي من الجراء بنفس اللون، كلهم باللون الأسود، والأبض، أو الأبيض بنقاط سوداء".
نحن الذكريات التي نختارالحفاظ عليها.
بقلم :
جريجوري سي إيفز
كوريا دوت نت
الصور من : المعهد الكوري للترجمة الأدبية، وصحافة جامعة كولومبيا
gceaves@korea.kr