أحد الأعمال الكورية المشاركة في معرض حيّ القاهرة الدولي للفنون. (الصورة من إسراء الزيني)
بقلم مراسلتي كوريا نت الفخريتين المصريتين سلوى الزيني وإسراء الزيني
منذ قديم الأزل كان الفن وسيلة الإنسان الأولى للتعبير عن ذاته، وللتواصل مع الآخر عبر اللون والضوء والصوت والحركة. إنه لغة لا تحتاج إلى ترجمة، قادرة على اختزال المشاعر الإنسانية في لحظة واحدة تجمع بين الثقافات مهما تباعدت الجغرافيا وتنوعت اللغات. وعلى اختلاف خلفياتهم الثقافية وجنسياتهم، يوحد الفن الناس في عالم مشترك من الجمال والإبداع.
كنا في كوريا نحرص على حضور المعارض الفنية في مراكزها الكبرى، مثل مركز 'هانغارام' للفنون في سيئول، حيث كانت معارض التصميم تُعيد تعريف العلاقة بين التراث والحداثة أو في معرض الرسوم التوضيحية في سيئول عام 2018 الذي جمع العديد من الفنون التشكيلية في تناغم بصري آسر. تلك التجارب ظلت راسخة في الذاكرة، لأنها قدّمت الفن وسيلةً لإيصال رسائل إنسانية، لا مجرد لوحات وأعمال فنية.
ومن هنا يأتي معرض حيّ القاهرة الدولي للفنون ليعيد هذا الدور الحضاري للفن في قلب العاصمة المصرية جامعًا بين التراث والتجديد، وبين الشرق والغرب، وبين مصر وكوريا التي حلت هذا العام ضيف شرف مميزًا على فعالياته.
أثناء كلمتها الافتتاحية السيدة 'نادين عبد الغفار' مؤسسة 'آرت دي إيجيبت' والمنظمة للمعرض. (الصورة من مؤسسة ’آرت دي إيجيبت‘)
يُنظم معرض حيّ القاهرة الدولي للفنون هذا العام من 12 أكتوبر حتى 16 نوفمبر 2025 في منطقة وسط البلد، بمشاركة أكثر من 70 فنانًا محليًا ودوليًا ليحول شوارع القاهرة التاريخية إلى متحف مفتوح ينبض بالحياة والإبداع.
ولأول مرة في تاريخه يقدم المعرض كوريا كدولة ضيف شرف من خلال المؤسسة الكورية للتبادل الثقافي الدولي، وذلك احتفالًا بمرور 30 عامًا على العلاقات الدبلوماسية الثقافية بين مصر وكوريا. هذه المشاركة ليست مجرد حضور فني بل هي حوار بصري بين حضارتين عريقتين، تتشابهان في عمق الجذور وثراء الموروث.
في كلمتها الافتتاحية قالت 'نادين عبد الغفار' مؤسسة 'آرت دي إيجيبت' والمنظمة للمعرض " يشرفنا أن نرحب بكم اليوم للاحتفال بالفن والثقافة في قلب وسط البلد. لطالما كان معرض حيّ القاهرة الدولي للفنون مساحة حوار حية بين التراث والفن المعاصر، حيث يتعايش القديم والجديد ليُلهم رؤى جديدة لرؤية المدينة وتجربتها. ويسعدنا هذا العام أن نرحب بدولة كوريا كضيف شرف، بالتعاون مع وزارة الثقافة والرياضة والسياحة الكورية والمؤسسة الكورية للتبادل الثقافي الدولي." واختتمت كلمتها قائلة " أتمنى أن تستمتعوا بالطعام الكوري، فهو أيضًا أحد أشكال الفن التي تعبّر عن ثقافة غنية وتاريخ عريق."
السيد 'تشوي بيونغ-تشون' الوزير المفوض والقنصل العام ممثلًا لجمهورية كوريا والذي أعرب عن اعتزازه بهذا التعاون الثقافي. (الصورة من مؤسسة ‘آرت دي إيجيبت’)
أما السيد 'تشوي بيونغ-تشون' الوزير المفوض والقنصل العام ممثلًا لجمهورية كوريا فقد أعرب عن اعتزازه بهذا التعاون الثقافي قائلاً "من الرائع أن تتم دعوة كوريا للمرة الأولى كدولة ضيف في معرض حيّ القاهرة الدولي للفنون، المهرجان الفني المعاصر الذي يضفي كل عام طاقة جديدة على وسط البلد. وتكتسب هذه الدعوة أهمية خاصة هذا العام تزامنًا مع احتفالنا بالذكرى الثلاثين للعلاقات الدبلوماسية بين كوريا ومصر. نحن ممتنون لمحبة المصريين للثقافة الكورية من موسيقى الكي بوب إلى الطعام الكوري واللغة الكورية، ويسعدني أن يمتد هذا الحب اليوم ليشمل الفن الكوري أيضًا."
الطعام الكوري المقدم أثناء حفل افتتاح المعرض. (الصورة من سلوى الزيني)
أعمال الفنان ’إك-جونغ كانغ‘ خلال المعرض. (الصورة من إسراء الزيني)
وضمن فعاليات المعرض جاء المعرض الفرعي 'التلاقي' ليحتفي بثلاثة عقود من العلاقات الثقافية والدبلوماسية بين البلدين. العنوان ذاته يشير إلى فكرة التقاء نهرين أي تداخل الثقافتين المصرية والكورية في مجرى واحد من الإبداع المشترك. حيث يجسد المعرض فكرة التفاعل بين الحضارتين المصرية والكورية من خلال أعمال ستة فنانين كوريين معاصرين، أبرزهم ’إك-جونغ كانغ‘ المعروف للجمهور المصري بعمله الاستثنائي ’المعابد الأربعة‘ الذي عُرض في الأهرامات العام الماضي ضمن فعاليات معرض ’الأبد هو الآن‘ في نسخته الرابعة. ويحظى كانغ بتقدير دولي واسع لقدرته على وصل العوالم المتباعدة بين الشخصي والجماعي، وبين التاريخ والحياة اليومية.
وفي هذا المعرض يقدم كانغ لوحته الشهيرة ’جرة القمر‘ إلى جانب أعمال فنية على هيئة قطع أثاث تمزج بين اللغة الكورية والعربية والهيروغليفية المصرية القديمة. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود من الممارسة الإبداعية، أثبت كانغ أن العناصر المتناقضة ظاهريًا يمكن أن تتآلف في انسجام تام، لتقرب الناس عبر حدود الثقافة والزمن.
كما يُشارك الفنان ’جونغ كيو بارك‘، والذي يشارك في معرض ’الأبد هو الآن‘ لهذا العام بأعمال تجريدية معاصرة تعيد وصل الشرق بالغرب. يجمع بارك في أعماله بين تقنيات التطعيم القديمة في الخزف الكوري ’السيلادون‘ التي تعود إلى القرن الثاني عشر، وبين أساليب الرسم الأكريليكي الحديثة. كانت تقنية التطعيم تلك تقوم على حفر نقوش دقيقة في سطح الطين ثم ملئها بطبقة بيضاء أو سوداء قبل التزجيج والحرق، ما يمنح الخزف الكوري تباينه اللوني المميز.
كما يعرض بارك منحوتة صغيرة بعنوان ’رمز الأبدية‘ التي ستُعرض لاحقًا في معرض ’الأبد هو الآن 2025‘ في هذا العمل يعيد الفنان تأمل فكرته المحورية عن ’الضوضاء‘ في سياق الصحراء المصرية، ليخلق مساحة تأملية تتقاطع فيها المادة والتكنولوجيا والأسطورة في تناغم بصري واحد.
أعمال الفنانة ’تشوي چي-يون‘. (الصورة من إسراء الزيني)
أما أعمال الفنانة ’تشوي چي-يون‘ فهي أشبه بقصيدة تحتضن أحاسيس الشرق والغرب الرقيقة. من خلال لغة بصرية كورية متجذرة في الرسم التقليدي، تتناول تشوي الخلق والفناء، والجوهر والخلود، مفسرة الرابطة بين الطبيعة والإنسانية بعمق بيئي وعاطفي. تستخدم ’الهانجي‘ التقليدي (ورق التوت الكوري) كقماش، وترسم بمواد متنوعة، أحيانًا تصور الجواهر بالألوان المائية وأحيانًا أخرى تُدمج الأحجار الكريمة الحقيقية في أعمالها.
تُعيد تشوي تفسير الزهور والرسم الكوري التقليدي، مستخدمةً الحيوانات كاستعارات للبشر للتعبير عن موضوعها الأهم 'الحب' من خلال لغتها البصرية الفريدة والمثيرة. على الرغم من أن الحب موضوع عالمي ومألوف، إلا أنها نجحت في التعبير عنه بأسلوب فريد يثير الوجدان ويجمع الحسّ الجمالي بين الشرق والغرب.
أعمال الفنانة ’لي هي-مين‘. (الصورة من إسراء الزيني)
بينما تنجذب ’لي هي-مين‘ إلى ما يكمن في المسافة بين الأشياء، بين العاطفة والبناء، بين اللين والصلب. فالقماش بالنسبة لها ليس مجرد مادة، بل رمز ومعنى في آنٍ واحد، فهو يحمل الدفء والذكريات ويمنح في الوقت ذاته الشكل والمساحة. من خلال المنسوجات تستكشف لي التوازن بين الحماية والانكشاف بين العاطفة والبناء. من خلال عملها اليدوي مثل الخياطة والحياكة والعقد تعتبر هذه الأفعال طقوسًا من الرعاية والمقاومة الهادئة في عالمٍ سريع الإيقاع. تستخدم الأقمشة المُعاد استخدامها والألياف الطبيعية تقديرًا منها لفكرة الاستدامة. أما آثار الزمن والعطب، فتصبح جزءًا من صوت العمل الفني نفسه. تستخدم في أعمالها التركيبية القماش والضوء والهواء لخلق مساحات من التأمل والسكون، حيث يمكن للمشاهدين استشعار العناية والاستمرارية والقوة الخفية للأشياء المصنوعة يدويًا ببطء.
أعمال الفنانة ’سيوسي‘ باستخدام ورق الذهب. (الصورة من سلوى الزيني)
بينما توظّف ’سيوسي‘ ورق الذهب، المادة التي تحتل مكانة عميقة في تاريخ الثقافة الإنسانية، لتجسيد المُثل العليا واستحضار الحنين إلى الأجداد، كاشفةً عن كيفية إعادة تخيل بقايا الماضي في سياق الحاضر. تعيش الفنانة وتعمل بين لوس أنجلوس وسيئول، حيث تترجم الفلسفة الشرقية إلى لغة بصرية من الأشكال. وتجسّد أعمالها جذور التساؤل الإنساني الأزلي، من أنا؟ من أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟
ترتكز ممارستها الفنية على المفهوم البوذي ل 'الفراغ' ومن خلال هذا المنظور، ترى ’سيوسي‘ أن جميع الكائنات والظواهر مترابطة، تتدفق ضمن نسيج واحد من الوجود. تتكوّن لوحاتها من طبقات كثيفة تتخللها شقوق عضوية دقيقة تُذكر ببريق الخزف أو تشعبات الأعصاب، في إشارة إلى متاهة البدايات. أما ورق الذهب فهو وسيلتها الأساسية لتصوير سعي الإنسان الدائم نحو المثالية. وبفضل دراستها الأكاديمية المتخصصة في هذا المجال، تجمع ’سيوسي‘ بين البراعة التقنية والدقة التكوينية في آنٍ واحد.
وأخيرًا تستكشف ’جو سو-وون‘ التقاء التراث والهوية المعاصرة من خلال حرفيتها المعدنية الدقيقة. ففي أعمالها تمزج بين الزخارف الكورية التقليدية والحس الجمالي الحديث، ساعيةً إلى الوصل بين الفن والحياة اليومية، ومعبرة عن جمال الطبيعة وقوتها الدائمة.
عقد على شكل قلب، من الفضة الإسترلينية للفنانة جو سو-وون. (الصورة من سلوى الزيني)
تستمد إلهامها من ’الهانبوك‘ و’النوري غيه‘ رموز الرقة والفضيلة والأنوثة في الثقافة الكورية وتحول هذه الرموز إلى أشكال نحتية تربط الماضي بالحاضر. تعيد جو صياغة اللغة الزخرفية للملابس التقليدية، محافظة على أناقتها الأصلية مع إدخال روح عصرية جديدة.
وباستخدامها النحاس والفضة والأقمشة، تبتكر تكوينات دقيقة تجمع بين الدقة والقوة، وتثير في النفس إحساسًا مزدوجًا بالحنين والتجدد. ومن خلال براعتها الحرفية وعمقها المفاهيمي، تتأمل جو في كيفية استمرار الذاكرة الثقافية في التطور داخل الحياة الحديثة.
تعكس ممارستها حوارًا بين الإرث والتحول، وتجسد روح الجماليات الكورية المعاصرة، مع الوفاء لسحر الفن التقليدي وصداه العاطفي الخالد. كما تسعى إلى مزج الفن بالحياة اليومية، لتعبر عن جمال الطبيعة وقوة استمراريتها.
في النهاية معرض ’حيّ القاهرة الدولي للفن‘ هذا العام ليس مجرد حدث فني، بل هو احتفاء بلقاء ثقافتين تنتميان إلى حضارتين من أقدم حضارات العالم. وكما تجتمع الألوان المختلفة لتخلق لوحة متكاملة، يلتقي الفنانون المصريون والكوريون اليوم ليؤكدوا أن الفن هو الجسر الأكثر صدقًا وإنسانية بين الشعوب، وأن الجمال المشترك قادر دائمًا على بناء حوار لا ينقطع بين الماضي والمستقبل، بين القاهرة وسيئول.
dusrud21@korea.kr
هذه المقالة كتبت بواسطة المراسلين الفخريين. مراسلونا الفخريون هم مجموعة من المراسلين حول العالم يشاركون شغفهم وحبهم لكوريا وثقافتها.