أن تصنع الكوتشجانغ بيديك… تجربة تصلك بجوهر المطبخ الكوري. (الصورة من مي طارق)
بقلم مراسلة كوريا نت الفخرية المصرية مي طارق
يشكّل معجون الكوتشجانج عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه في المطبخ الكوري، بل يمكن القول إنه يحمل بين مكوناته نكهة التراث وتفاصيل الهوية.
لطالما شدّتني بساطة هذا المعجون في مظهره، وغموضه في نكهته، ذلك المزيج بين الحدّة والعمق، وبين الطعم الحار والمخمّر الذي يصعب مقارنته بأي نكهة أخرى.
وقد كانت فكرة تحضيره في المنزل خطوةً طالما رغبت في خوضها، لا بوصفها تجربة طبخ فحسب، بل كشكل من أشكال الاقتراب الحقيقي من الثقافة الكورية، حيث تكمن قيمة التفاصيل في ما يبدو بسيطًا على السطح.
يعود أصل معجون الكوتشجانغ إلى قرونٍ مضت، إذ تشير المراجع الكورية إلى استخدامه منذ أواخر عهد مملكة جوسون، حيث كان يُعدّ في البيوت الريفية وفق طقوس خاصة تُنقل من جيلٍ إلى آخر.
يُصنع الكوتشجانغ التقليدي من مكونات بسيطة لكن غنية، وهي: دقيق الأرز المطهو على البخار، مسحوق الفلفل الأحمر الكوري، مسحوق فول الصويا -ميجوك-، ومسحوق الشعير المخمّر -يوتغيروم-جارو-، والملح، وقد يُضاف إليه أحيانًا القليل من شراب الأرز أو الذرة ليمنحه مذاقًا أكثر توازنًا.
بعد مزج هذه المكونات، يُحفظ المعجون في أوعية خزفية أو فخارية كبيرة -أونغي-، تُترك في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس لفترات طويلة قد تصل إلى عدة أشهر، في عملية تخمير طبيعية تمنحه نكهته الغنية والمعقّدة.
لا يُعدّ التخمير مجرّد أسلوب حفظ للأطعمة، بل هو تقليد غذائي متجذر في الثقافة الكورية، نشأ من الحاجة لتخزين الطعام لفصول الشتاء الطويلة، حين كانت الموارد محدودة. ومع مرور الزمن، لم يعد التخمير وسيلةً للبقاء فقط، بل أصبح وسيلة لإثراء النكهة وتعميقها، وهو ما يظهر بوضوح في طَعم الكوتشجانغ المائل للحِدّة والمُخمَّر في آنٍ واحد.
كنت دائمًا أظن أن تحضير معجون الكوتشجانغ في المنزل أمر معقّد يتطلّب أدوات خاصة أو معرفة دقيقة، لكن فضولي لتجربة هذه النكهة من مصدرها الأصلي، ورغبتي في الاقتراب أكثر من روح المطبخ الكوري، دفعتني إلى اتخاذ القرار.
قبل ذلك، قضيت وقتًا لا بأس به أبحث في مقاطع الفيديو على الإنترنت، خاصة على منصة يوتيوب، أتنقّل بين الوصفات المختلفة وطُرق التحضير التي تختلف أحيانًا في التفاصيل. ومع الوقت، جمعت العناصر الأساسية من الوصفة الأصلية، وعدّلتها بما يناسب المكونات المتاحة في بيئتي، حتى وصلت إلى طريقة شعرت أنها الأقرب للواقع الذي يمكنني تطبيقه في المنزل.
تجمع الصورة المكونات الرئيسية للكوتشوجانغ: الشطة الكورية، بودرة فول الصويا، دقيق الأرز منزوع الجلوتين 'الدبق'، الملح والسكر، ماء الشعير. (الصورة من مي طارق)
بدأتُ بجمع المكونات، بعضها لم يكن سهل التوفّر، مثل مسحوق الشعير المخمّر -يوتغيروم-غارو-، والذي استبدلته ببديل محلي أقرب في الوظيفة والنكهة. وكذلك مسحوق فول الصويا -ميجوك- لا يوجد في مصر النوع الكوري لكن توجد حبوب فول الصويا نفسها أو المجفف منها وهو ما .استخدمته وقمت بطحنه.
صورة توضح شكل حبوب فول الصويا التي تباع عند كل محلات العطارة. (الصورة من مي طارق)
ثم قمت بطهو دقيق الأرز على البخار حتى أصبح لزجًا، ثم مزجته بمسحوق الفلفل الأحمر والمكونات الأخرى، وقلّبته حتى حصلت على قوام سميك ومتماسك، له لون أحمر غني ورائحة مميزة.
لم تكن الخطوات صعبة بقدر ما كانت دقيقة، فكل مرحلة تطلبت صبرًا واهتمامًا بالتفاصيل، خاصة أن النتيجة النهائية لا تظهر مباشرة، بل تحتاج إلى تخمير لعدة أسابيع في إناء محكم، موضوع في مكان دافئ.
لا تُعدّ مكونات الكوتشجانغ شائعة في المطابخ العربية، لكنها متوفرة في متاجر الطعام الآسيوي، خاصة مسحوق الفلفل الأحمر الكوري -الكوتشكارو- ودقيق الأرز الدبق، وهما عنصران أساسيان في تكوين النكهة والقوام.
أما مسحوق الشعير المخمّر -ميجوك-، المكوّن المسؤول عن تحفيز عملية التخمير، فلم يكن متوفرًا، فقررت استبداله بـالشعير المصري بعد طحنه، ثم قمت بنقعه في الماء فقط دون غلي أو تحميص، واستخدمت ماء النقع هذا لخلط مكونات المعجون. وعلى الرغم من أن الشعير المحلي يفتقر إلى النكهة الحلوة الطبيعية الموجودة في الشعير الكوري، إلا أن ماءه أدّى الوظيفة الأساسية وهي تهيئة بيئة التخمير.
الصورة توضح شكل مسحوق الشعير المصري ووضعته في الماء للنقع. (الصورة من مي طارق)
فيما يخص القاعدة النشوية، قمت بطهو دقيق الأرز الدبق على النار حتى أصبح قوامه كثيفًا، ثم تركته ليبرد، قبل أن أبدأ في خلطه مع باقي المكونات.
المكونات الجافة بعد تقليبها وإضافة ماء الشعير ثم الصويا صوص. (الصورة من مي طارق)
أما بالنسبة إلى شراب الأرز أو الذرة، الذي يُستخدم عادة لإضافة لمسة من الحلاوة والتوازن، فوجدته متوفرًا في بعض المتاجر لكنه مرتفع السعر، فاستعنت بمزيج من العسل والسكر كبديل اقتصادي، وقد منح المعجون طابعًا متوازنًا دون أن يطغى على نكهته الأصلية. من المهم ملاحظة السمك عند دمج المعجون فإذا كان سائلاً زيادة عن اللزوم نضيف مزيداً من الشطة أو مسحوق فول الصويا - إذا لم نرغب بزيادة حرارة المعجون-، وإذا كان سميكاً بشكل زائد نقوم بإضافة المزيد من ماء الشعير، والملح مهم جدا للحفاظ على سلامة المعجون من العفن وكذلك لضبط النكهة.
,من أكبر التحديات التي واجهتني خلال تحضير الكوتشجانج كانت مرحلة التخمير والتخزين، فهي ليست فقط مرحلة انتظار، بل جزء جوهري من نجاح المعجون أو فساده.
في الطريقة الكورية التقليدية، يُحفظ الكوتشجانغ في أوانٍ خزفية خاصة توضع في الهواء الطلق في باحات المنازل، ويُراعى عادة أن يتم ذلك خلال فصل الشتاء، إذ أن درجات الحرارة المنخفضة تُسهم في تخمير آمن وبطيء، وتمنع نمو العفن أو فساد المعجون.
أما في مصر، حيث الطقس حار أغلب العام، فكان من غير الممكن ترك المعجون في الهواء الطلق، خصوصًا مع عدم توفّر الأواني الخزفية التقليدية التي تتميّز بخواص تسمح بتبادل الهواء وتحافظ على استقرار درجة الحرارة والرطوبة.
لذلك، اخترت تخزين المعجون في الثلاجة، لتوفير بيئة باردة وآمنة نسبيًا للتخمير، وإن كانت لا تمنح نفس العمق في الطعم الذي تخلقه الأشهر الطويلة في الهواء الكوري البارد. أما في حال كان الجو باردًا في مصر، فقد يكون بالإمكان تخزينه خارجيًا لفترة محدودة، شرط استخدام أوانٍ مناسبة، وإن كانت النتيجة تظل مختلفة بسبب اختلاف المناخ وطبيعة المواد المستخدمة.
شكل معجون الشطة الكوري بعد خلط جميع المكونات في البداية لم أقم بتحضير معجون الأرز على النار لذا القوام لا يوجد به القوام المطاطي المعتاد لكن قمت بتعديلها لاحقاً. (الصورة من مي طارق)
ورغم أن التخزين في الثلاجة يُبطئ من عملية التخمير مقارنةً بالطرق التقليدية، فإن التجربة كانت مسلية ومليئة بالتفاصيل التي استمتعت باكتشافها خطوةً بخطوة.
من اللطيف أن أتمكن من تحضير وصفة تراثية بهذا القدر من الخصوصية في المنزل، وأن أقترب قليلًا من ثقافة تختلف عني جغرافيًا، لكنها قريبة جدًا من قلبي.
أما النتيجة، فقد فاقت توقعاتي من حيث القوام والطعم، وكانت قريبة بدرجة مدهشة من معجون الكوتشجانغ الجاهز، مع لمسة منزلية تمنحه دفئًا مختلفًا.
صحيح أن تكلفة تحضير المعجون منزليًا لم تكن أقل بكثير من ثمن الكوتشجانغ الجاهز، خاصة مع الحاجة إلى شراء بعض المكونات المستوردة، لكن التجربة بذاتها كانت ممتعة ومثرية، والنتيجة النهائية تستحق كل ما بُذل فيها من وقت ومجهود.
قررت أن أترك المعجون ليتخمّر فترة أطول -ربما شهرًا ونصف أو شهرين- حتى تمتزج النكهات جيدًا، ويكتسب عمقًا أكبر. إنني أنتظر تلك اللحظة التي أستخدمه فيها في طبق كوري من صنع يدي، لأرى كيف ستنعكس كل هذه المراحل على المذاق النهائي.
لم تكن تجربة تحضير الكوتشجانغ مجرد وصفة أتعلمها، بل كانت خطوة جديدة في طريق اكتشاف المطبخ الكوري الذي يزداد شغفي به يومًا بعد يوم.
مع كل وصفة أتعلمها، وكل نكهة جديدة أتذوقها، أشعر بسعادة حقيقية، وكأنني أقترب أكثر من ثقافة أحبها، ليس بالكلمات، بل بالمذاق والتجربة.
وربما لهذا السبب أدعو كل من يقرأ هذه الكلمات أن يجرّب. حتى إن لم يكن الطبخ شغفًا أو اهتمامًا أساسيًا له، فهناك متعة خفية في أن نكتشف العالم من خلال وصفة… وفي أن نصنع بأيدينا ما كنا نظنه يومًا بعيدًا أو معقدًا.
dusrud21@korea.kr
هذه المقالة كتبت بواسطة المراسلين الفخريين. مراسلونا الفخريون هم مجموعة من المراسلين حول العالم يشاركون شغفهم وحبهم لكوريا وثقافتها.