صورة تجمع بين لقطات متنوعة تُبرز التحوّلات المذهلة في تصميم الهانبوك الكوري عبر العصور؛ من أناقته التقليدية في الماضي، إلى لمسته العصرية في الحاضر، وصولًا إلى أسلوبه الشبابي المُبتكر الذي يعكس روح الجيل الجديد. (الصورة من زينب كمال)
بقلم مراسلة كوريا نت الفخرية المصرية زينب كمال عبد الغني محمد
الجانب الخفي من الهانبوك: كيف يعكس الزي التقليدي الكوري الطبقات الاجتماعية والنوع والهوية؟
منذ أن بدأت رحلتي في استكشاف الثقافة الكورية، كان الهانبوك، الزي التقليدي الكوري، يلفت انتباهي بشدة. ألوانه الزاهية، وانسيابيته الرشيقة، وتفاصيله الدقيقة، جعلتني أراه أكثر من مجرد لباس، بل بوابة لفهم أعمق للمجتمع الكوري وتاريخه الثقافي والاجتماعي.
لم أزر كوريا الجنوبية من قبل، ولكن كانت لي فرصة حقيقية للاقتراب من الهانبوك وتجربته شخصياً من خلال المركز الثقافي الكوري في القاهرة، حيث جربت ارتداءه لأول مرة. كان شعوراً غريباً جميلاً؛ شعرت وكأنني أرتدي جزءاً من حكاية تاريخية بعيدة. وقفت أمام المرآة أتأمل تفاصيل القطعة التي أرتديها، وتساءلت: ما الذي يخبرني به هذا الزي عن الشعب الذي ينتمي إليه؟
خلال تلك التجربة، تحدثت مع إحدى الموظفات بالمركز، وكانت تشرح لي دلالات الألوان والتصاميم. قالت لي بابتسامة دافئة: "الهانبوك يحكي قصة من دون كلمات". تأملت هذه العبارة كثيراً، وأدركت أنني لا أرتدي مجرد قماش، بل أرتدي رمزاً له دلالات ثقافية عميقة.
في إحدى فعاليات المركز الثقافي الكوري تحت عنوان ’أهلاً كوريا‘، تظهر صورتي وأنا أرتدي الهانبوك الزهري المطرز بعناية شديدة، مما يعكس جمال التراث الكوري الأصيل، في قاعة تُظهر فخامة هذا اللباس التقليدي الذي يرمز للثقافة الكورية العريقة. (الصورة من زينب كمال)
في العديد من الفعاليات الثقافية الكورية التي حضرتها بالقاهرة والجيزة والإسكندرية، سواء التي نظمها المركز الثقافي الكوري أو مجموعات من محبي الثقافة الكورية، كنت ألاحظ تنوعاً مذهلاً في أشكال الهانبوك. بعضها تقليدي خالص، وبعضها محدث ومعاصر، يحمل لمسة فنية واضحة. علمت حينها أن الهانبوك ليس مجرد زي واحد، بل عالم كامل من الدلالات.
في العصور القديمة، كان الهانبوك وسيلة واضحة للتعبير عن الطبقة الاجتماعية. كانت الألوان، والنقوش، ونوع القماش كلها تعكس المكانة الاجتماعية للفرد. فمثلاً، كان اللون الأحمر أو البنفسجي الداكن مخصصاً للملوك والنبلاء، بينما كانت الألوان الهادئة مثل الأزرق أو الرمادي لعامة الشعب. أما نوع القماش، فقد ميز الطبقات أيضاً؛ إذ ارتدى الأثرياء الحرير، في حين ارتدى الفقراء القطن أو الكتان.
كوني مصرية، لم تكن هذه الفكرة غريبة تماماً عني. في ثقافتنا أيضاً يعبّر الزي عن الانتماء والمكانة. فالجلباب الصعيدي، على سبيل المثال، يختلف عن جلباب أهل بحري، ولكل منطقة في مصر خصوصيتها في اللباس. لذلك، كنت أستطيع أن أرى بسهولة كيف أن الهانبوك لا يمثل فقط أناقة أو تقليداً، بل يعكس هوية كاملة.
ما أدهشني أيضاً هو الفارق بين ملابس الرجال والنساء في الهانبوك. فالمرأة ترتدي ’تشيما‘ وهي تنورة طويلة، مع ’جيوغوري‘، سترة قصيرة، في حين يرتدي الرجل سروالاً فضفاضاً وسترة أطول. وعلى الرغم من هذا التمايز، لم أشعر بأن فيه تمييزاً أو تحكماً، بل شعرت أن هناك فلسفة جمالية وروحية خلف هذه التصاميم، تقوم على مفهوم التوازن والانسجام بين الأدوار.
في إحدى الفعاليات الثقافية، التقيت بشاب كوري خلال عرض مذهل احتفالا بالتعاون الثقافي الكوري والمصري خلال 30 عام من الانجازات كانت الفتيات يرتدين هانبوك عصرياً بتصميم غير تقليدي تماماً، لكنه حافظ على جوهر الزي التقليدي. كان القماش مختلفاً، وربما أقرب إلى خامات الموضة الحديثة، لكنه قال لي بفخر إن كثيراً من الكوريين يرتدون الهانبوك في الحياة اليومية، خاصة في المدن التراثية أو في الأعياد والمناسبات الرسمية. وبعضهم يرتديه حتى في حفلات التخرج أو في جلسات التصوير.
فتيات فرقة كوين الكورية يرتدين هانبوكاً معاصراً يحتفظ بروحه الكورية التقليدية، بتصميم مبتكر وتنسيق ألوان مذهل يعكس جمالية التراث بأسلوب حديث، وذلك خلال حفل مميز يُجسد روح التعاون بين مصر وكوريا احتفالاً بمرور ثلاثين عاماً من الإنجازات المشتركة. (الصورة من زينب كمال)
صورة تُبرز الهانبوك الكوري بلمسة عصرية أكثر حداثة وشباباً، يعكس ذوق الحاضر وتوجهات الموضة المعاصرة، مع الحفاظ على الخطوط الكورية التقليدية الواضحة، وذلك خلال نفس الحفل. (الصورة من المركز الثقافي الكوري لدى مصر)
أما في مصر، فنحن نرتدي الهانبوك في الفعاليات الثقافية التي تقام من قبل المركز الثقافي الكوري، أو تلك التي ينظمها محبّو الثقافة الكورية مثل احتفالات الكي-بوب أو معارض الدراما الكورية. في كل مرة أرتديه، أشعر أنني أشارك في ثقافة حية، لا تزال تتطور وتتحرك، وتحتفظ في الوقت ذاته بجذورها العميقة.
قرأت بعد ذلك عن حركة فنية حديثة في كوريا تهدف إلى إعادة تصميم الهانبوك بطرق تناسب الشباب، باستخدام خامات جديدة مثل الجينز أو الأقمشة اللامعة، وتصاميم تُدمج فيها روح الحداثة مع الشكل التقليدي. شعرت أن الهانبوك في هذا السياق لم يعد فقط رمزاً ماضوياً، بل أصبح تعبيراً حيوياً عن حرية الإبداع والهوية المتجددة.
ما أثار إعجابي أكثر هو استخدام الهانبوك في بعض القضايا الاجتماعية. فقد قرأت عن الهانبوك باللون الأسود، كنوع من التعبير الرمزي عن الغضب والحداد. وقتها أدركت أن هذا الزي الذي ارتبط تقليدياً بالنظام والتراتبية، يمكن أن يكون أداة احتجاج سلمية وذات رسالة قوية.
بالنسبة لي، أصبحت تجربة ارتداء الهانبوك أشبه بحوار صامت مع ثقافة أخرى. لم أكن أكتشف كوريا فقط، بل كنت أعيد اكتشاف ذاتي. شعرت بأن الأزياء ليست مجرد مظهر، بل وسيلة لفهم أعمق للعالم، ومرآة للهوية الشخصية والاجتماعية.
أؤمن أن الهانبوك، مثل أي زي تقليدي حي، لا ينتمي فقط إلى الماضي، بل يمتلك القدرة على التجدد والتعبير عن الحاضر والمستقبل. وقدرته على التعبير عن الهوية والجمال والكرامة، تجعل منه رمزاً يستحق التأمل والاحتفاء.
هانبوك تقليدي بلمسة عصرية في حفل قافلة الثقافة الكورية ترتديه إحدى مؤديات العروض. (الصورة من زينب كمال)
الهانبوك بين الطبقات والنظام زيٌّ يحكي عن السلطة والانتماء
حين بدأت أقرأ عن تاريخ الهانبوك، اكتشفت أن هذا الزي ليس فقط رمزًا للهوية الجمالية، بل أيضًا وثيقة بصرية تعكس علاقات القوة والمكانة داخل المجتمع الكوري القديم. في عصور ممالك مثل ’غوريو‘ و’جوسون‘، لم يكن الهانبوك مجرد اختيار شخصي، بل نظامًا صارمًا تحكمه القوانين والعادات، يُستخدم لتمييز الفئات الاجتماعية، من الأسرة الملكية إلى الطبقة العاملة.
خلال فترة حكم مملكة جوسون (من عام ١٣٩٢ إلى عام ١٨٩٧)، خضعت ملابس الرجال والنساء لنظام اجتماعي صارم مرتبط بالطبقة الحاكمة المعروفة باسم "اليانغبان"، وهي الطبقة الأرستقراطية التي تولّت شؤون الحكم والإدارة والمعرفة في البلاد. كان يُسمح لأفراد هذه الطبقة بارتداء الأقمشة الفاخرة كالحرير، واستخدام ألوان مميزة مثل الأرجواني، والأحمر القاني، والذهبي، تعبيرًا عن مكانتهم الاجتماعية. في المقابل، اقتصر لباس عامة الناس على الألوان الهادئة كالرمادي والبني، مع استخدامهم لأقمشة بسيطة مثل القطن أو الكتان.
ما أثارني فعلًا هو أن القوانين لم تترك شيئًا للصدفة، حتى لون حذاءك، وطول سترة ’الجيوغوري‘، ونوع العقدة المستخدمة في "الأوتغوري"، كانت مؤشرات على من تكون. تذكرت حينها كيف أن في ثقافتنا المصرية أيضًا، كان الزي الشعبي في الريف أو الصعيد يُعبّر عن الانتماء والطبقة وحتى نوع العمل. ربما تختلف التفاصيل، لكن الفكرة واحدة: الأزياء لغة سياسية بامتياز.
في كتب التاريخ الكوري، غالبًا ما يتم الإشادة بالهانبوك بوصفه زيًّا يعبّر عن النقاء والانسجام، وهذا حقيقي من حيث الشكل. لكني اكتشفت أن وراء هذه الأناقة، نظامًا صارمًا من الرموز والتصنيفات. بعض النساء مثلًا لم يكنّ قادرات على اختيار ما يرتدين، لأن ذلك تحدده حالتهن الاجتماعية. وكانت الأرامل تُجبرن على ارتداء ألوان داكنة لفترة طويلة. حتى الأطفال كان لهم زيّ خاص يرمز إلى موقعهم الأسري والعمر.
هذه المعرفة جعلتني أنظر إلى الهانبوك بعين مزدوجة. فهو من جهة جميل ورقيق، لكنه من جهة أخرى يحمل في طياته تراتبية اجتماعية كانت تقيّد حرية الأفراد، خصوصًا النساء. ومن هنا بدأت أفكر: هل يمكن لزيّ أن يكون رمزًا للهوية والتحكم في آنٍ واحد؟ وهل يمكن تحويله من أداة تمييز إلى مساحة للتعبير الحر في العصر الحديث؟
المثير في الهانبوك هو كيفية تقديمه للمرأة بشكل يجسد ’الأنوثة‘ من خلال التشكيلات والقصّات، التي تهدف إلى إبراز الرقة والنعومة. أما في الجانب الرجالي، فكان التصميم أكثر عملية وأقل تطلبًا للزينة، مما يبرهن على الهيكل الاجتماعي الذي كان يقسم الأدوار بشكل صارم بين الرجل والمرأة.
الهانبوك كان يعكس مفاهيم الطبقية والنوع الاجتماعي في المجتمع الكوري. كان هناك اعتقاد قديم بأن المرأة يجب أن تكون دائمًا في حالة من "الاحتشام" في لباسها، وهو ما يعكس بشكل أساسي الدور التقليدي للمرأة في كوريا، التي كان يُنظر إليها على أنها رمز للجمال والنعومة. بالمقابل، كان الرجل يُعتبر المسؤول الأول عن المجتمع والطبقات الحاكمة، لذا كان لباسه أكثر تركيزًا على القوة والجدية.
لكن مع مرور الوقت، بدأ الهانبوك يشهد تحولات تدريجية. في القرن الـ20، ومع الانفتاح الثقافي الذي شهدته كوريا الجنوبية، بدأ الهانبوك في التغيير ليواكب العوامل الاجتماعية والسياسية الحديثة. بدأت تصاميم الهانبوك تأخذ أشكالًا أكثر مرونة، وتدخل فيها بعض العناصر الغربية، كما بدأت النساء في كوريا ارتداء الهانبوك العصري بألوان وتصاميم جديدة تعكس تجديد الهوية الكورية.
أثار اهتمامي هذا التحول. في زياراتي للمركز الثقافي الكوري، لاحظت أن الهانبوك العصري لم يكن مقتصرًا على كبار السن أو النساء فقط، بل أصبح يرتديه حتى الشباب، حيث دمجوا بينه وبين قطع من الأزياء الحديثة كالجينز والقمصان. خلال أحد الفعاليات، رأيت شابًا كوريًا يرتدي هانبوكًا حديثًا مع قبعة بيسبول وحذاء رياضي. كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها الهانبوك يتخذ هذا الشكل المتجدد، مما جعلني أدرك أن الثقافة الكورية تتطور بشكل دائم، مع حفاظها على أصولها.
وبما أنني دائمًا ما أبحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين ثقافتنا والثقافة الكورية، وجدت في الهانبوك صلة قوية مع بعض مظاهر الزي التقليدي في مصر. في ثقافتنا أيضًا، على الرغم من أن الأزياء تحمل في طياتها رسائل جندرية، إلا أن هناك اليوم تحولات كبيرة في اختيار الملابس، خاصة بين الشباب. فكما أصبح الهانبوك العصري جزءًا من ثقافة الشارع في كوريا، أصبح لدينا أيضًا في مصر اهتمام متزايد بإعادة تفسير أزيائنا التقليدية مثل "الجلابية" أو "العباءة" في صياغات عصرية.
صورة تجمعني مع زوجة السفير الكوري في منزل السفير بالقاهرة، وهي ترتدي الهانبوك الكوري المميز، وذلك في يوم الاحتفال بالعيد القومي لجمهورية كوريا. (الصورة من زينب كمال)
الآن، وقد وصلنا إلى ختام المقال، يمكنني أن أقول إن تجربتي مع الهانبوك، رغم أنها مقتصرة على مصر، قد جعلتني أكتشف عمقًا أكبر في فهم هذا الزي التقليدي. فالهويّة الكورية لا تقتصر فقط على التقاليد القديمة، بل تتداخل مع تطلعات الشباب وطموحاتهم. وهذه التداخلات تُظهر كيف أن الثقافة الكورية مستمرة في التطور، مع حفاظها على جذورها.
بالنسبة لي، فإن الهانبوك ليس مجرد زي تقليدي يرتديه الناس في المناسبات الخاصة. هو قصة ثقافية وتجربة شخصية أثرت فيّ بشكل عميق. أعتبره جزءًا من محاولة فنية للتوفيق بين الماضي والمستقبل، بين التقاليد والحداثة، وبين الأفراد والجماعات. في تجربتي، اكتشفت كيف أن الثقافة الكورية قادرة على أن تكون مرنة، وأن تتناغم مع تحديات العصر.
الهانبوك المعاصر الأكثر حداثة بطابعه الشبابي الجريء، كما ظهر في نفس الحفل الذي جمع بين الأصالة والابتكار. (الصورة من زينب كمال)
أعتقد أن الهانبوك هو أحد الرموز التي تجمع بين الماضي والحاضر، بين الفرد والمجتمع، وبين الثقافة الكورية والثقافات الأخرى. هو رابط بين الأجيال وحافظ على الهوية عبر العصور، وعلى الرغم من تطوره، إلا أنه لا يزال يحتفظ بقوته الرمزية في العصر الحديث. وعندما أرى الهانبوك الآن، سواء في الفعاليات الثقافية في مصر أو في كوريا، أشعر بأنني أعيش في عالم ثقافي يتجاوز الحدود الجغرافية. إنه تذكير لي بأهمية الاعتزاز بالتراث الثقافي، وفي نفس الوقت، بضرورة التغيير والتكيف في عالمنا المعاصر.
ربما لا تكون قطعة قماش كافية لتغيير نظرتك للعالم، لكن الهانبوك ليس مجرد قطعة قماش؛ إنه بوابة... بوابة إلى حضارة تنبض في الألوان، وتتنفّس في التفاصيل. وإن كنت تظن أنك تعرف كوريا، فجرب أن ترتديها، لا أن تقرأ عنها فقط.
العديد من الذكريات السعيدة التي يتوسطها الهانبوك بلمسات كورية فاتنة. (الصورة من زينب كمال)
dusrud21@korea.kr
هذه المقالة كتبت بواسطة المراسلين الفخريين. مراسلونا الفخريون هم مجموعة من المراسلين حول العالم يشاركون شغفهم وحبهم لكوريا وثقافتها.